الوطن
محمد صلاح البدرى
القانون أولاً.. ثم بعد ذلك تأتى الحضارة!
لم تكن المرة الأولى التى أزور فيها تلك القارة الجديدة التى لم أتمكن من الوقوع فى حبها أبداً، ربما بسبب المسافة التى تضطر لقطعها عبر الهواء لساعات طويلة، والتى تتطلب أن تظل جالساً فى مقعد الطائرة لأكثر من عشر ساعات كاملة، ولكنها المرة الأولى التى أقترب من حدودها الجنوبية إلى هذه الدرجة، فمدينة سان دييجو التى يقام فيها ذلك المؤتمر الطبى تقع على الحدود المكسيكية بشكل غريب، حتى إنك تستطيع ببساطة أن ترى ذلك السلك الشائك الذى يفصل بين الدولتين فى نهاية خط المترو الخاص بالمدينة، وتجد هاتفك قد بدأ فى استقبال رسائل التجوال الخاصة بالمكسيك بمجرد اقترابك من الجزء الجنوبى من المدينة! إنها مدينة لا تنتمى لولاية كاليفورنيا بقدر انتمائها للمكسيك، حتى المواطنين الذين تقابلهم فى الشارع وفى المحلات، إنهم يحملون تلك الملامح المكسيكية التى تقترب بشدة من ملامحنا نحن، باختصار إنها مدينة مكسيكية، ولكن بقوانين أمريكية!

والمكسيكيون شعب غير متحضر بالمرة، إنهم يحملون نفس جينات الفهلوة والشطارة التى نحملها نحن، ستجد فيهم بسهولة من يشتكى من سوء أخلاق الجيل الجديد الذى لا يحترم شيئاً، وستجد لديهم نفس الفوضى المرورية، ربما تجد لديهم أيضاً ذلك الشرطى الذى «يصبح عليك» فى كل مصلحة حكومية، أو ذلك العاطل الذى يعمل سائقاً فى أوقات فراغه، وبلطجى فى باقى اليوم، ستجد لديهم نفس الحلول العبقرية لكل المشاكل، التى لا تؤدى إلا إلى تفاقمها فى أفضل الأحوال، إذا لم تؤد إلى كارثة فى الأغلب!

الطريف أنه على الرغم من أن المكسيكيين لا يختلفون عنا كثيراً، فالمدينة نظيفة تماماً، لن تستطيع أن تجد «عقب» سيجارة ملقاة على الطريق فى أى مكان، لن تتمكن من معاتبة سائق سيارة أجرة لأنه لم يلتزم بحارته التى يسير فيها أبداً، الكل ملتزم تماماً بالقانون، لا يوجد فهلوة من أى نوع، الكل يحرص أن يعطيك فاتورة لكل مال يحصل عليه منك، حتى إنك تتساءل كيف يلتزم ذلك الشعب بكل تلك القوانين بلا تذمر أو ضيق؟!

أذكر أن صديقاً سأل أحد سائقى التاكسى منذ عدة أعوام فى سنغافورة كيف وصلوا لهذا النظام والتحضر؟ فكانت إجابته مفحمة ومحرجة، لقد أجاب أن القانون هنا صارم لا يرحم، وعقوبة مخالفة الحارة المرورية قد تصل إلى الحبس، ولهذا فالسجون لدينا شبه خالية!

الأمر أصبح واضحاً، والمعادلة اكتملت أطرافها، فالتحضر لا يحتاج شعباً واعياً أو متعلماً حتى، فقط يحتاج قانوناً صارماً يتم تطبيقه بلا هوادة وبلا استثناءات، وقتها سيلتزم الجميع دون النظر لأى اعتبارات أخرى، هناك أمين شرطة يقف خلف شباك الجوازات فى مطار القاهرة لا تفارق السيجارة يده، فى مشهد مقزز يحفظه كل من سافر من المطار القديم خلال العام الماضى، وحين قررت يوماً أن أتخذ موقفاً إيجابياً وأطلب منه إلقاءها من يده، أجابنى بابتسامة ساخرة أن مدير أمن المطار يعلم جيداً، وأنه تعرض لكل أنواع العقوبات ولا فائدة! أعتقد أن عقوبة مثل الفصل من عمله قد تجعله يرتدع عن هذا الفعل الذى يسىء إلى الدولة كلها وليس لجهاز الشرطة أو أمن المطار فقط!

إنها إجراءات لا تحتاج لميزانيات أو خطط، لا تحتاج لثورة أخلاق أو تعليم، فقط تحتاج لإرادة التغيير، لإرادة التحضر، الذى لا يحتاج سوى قانون نفتقده بشدة!

القانون أولاً يا سادة.. ثم بعد ذلك تأتى الحضارة!

استقيموا.. يرحمكم الله!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف