مدينة «نيوهرموبوليس» هى إحدى تجارب بناء «يوتوبيات حديثة»، والتى تعتمد على بعث تاريخ وعمارة وفكر قديم كان له تفوقه فى عصره. كذلك تصوغ هذه اليوتوبيات علاقة قياسية بين الإنسان والطبيعة، بينه وبين السماء، وأيضا بينه وبين المعرفة. هناك نوع آخر من اليوتوبيات الحديثة ظهرت فى مصر أهمها مدن المعمارى المصرى "حسن فتحى" التى كانت تسعى هى الأخرى للقبض على هذه المعادلة التى يشغل مركزها الإنسان، وكيف أن يكون بيته جزءًا من الطبيعة، كأنه بيت مقدس يعيش فى انسجام وسلام مع كل من حوله، وليس مغتربا كما نعيش فى حياتنا وبيوتنا الحديثتين.
تم بناء هذه اليوتوبيا الحديثة: "نيو هرموبوليس" أو "هرموبوليس الجديدة" بجوار إحدى بقاع المعرفة الروحية فى مصر القديمة، وهى "هرموبوليس" أو مدينة هرمس، أو "الأشمونين" باللغة المصرية، والموجودة فى صحراء محافظة المنيا، وبالقرب منها "تل العمارنة" حيث عبادة إخناتون، إله التوحيد، وبالقرب منها أيضا، تقع جبانة "تونا الجبل" وهى المقبرة التى تأوى جسد حاكم المدينة وكهنته، وتحتوى أيضا على كتاكومب، وهى مدافن غائرة فى الحائط، لدفن مومياوات طائر الأيبس "أبو قردان صديق الفلاح" بجانب قرد البابون، وهى الحيوانات المقدسة التى ارتبطت بالإله تحوت فى الديانة المصرية القديمة. وعندما جاء الإغريق إلى مصر وعرفوا أن هذه المدينة هى مدينة تحوت أطلقوا عليها اسم هرموبوليس، ومعناه مدينة هرمس وهو تحوت عند الإغريق. وتسمى أيضا مدينة الثامون، التى تعتمد على الرقم ثمانية وهو عدد الآلهة، أو العناصر الأساسية، التى قامت بخلق الأرض: أربعة ذكور وأربع إناث.
فى هذا الإحداثى التاريخى الذى جمع بين أكثر من ثقافة؛ قامت الطبيبة النفسية ميرفت عبد الناصر ببناء مشروع حياتها هناك، أو كما تسميها "يوتوبيا ممكنة". نموذج مصغر لمدينة فاضلة جديدة بالقرب من المدينة القديمة ليتم استمرار هذا المنبع القديم للمعرفة والتوحيد وسيادة العقل، فهذا التجاور يسعى لإنبات جديد لهذه البذرة الكامنة القديمة والتى عاشت فى هذا المكان، وها هى تطرح ثمارها بعد مرور آلاف السنوات.
فى هذه المدينة الحديثة تشعر أنك فى مواجهة أثر يطمح بأن يكون خالدا وينافس ذويه القدامى. تلحظ هذا من شكل المبانى والمواد المستخدمة فيها وتقسيمها، والرموز العديدة المتناثرة فى أرجاء المكان. أى خلود يعتمد على البعث، سواء لفكرة، لحضارة، لأحلام، بمعنى آخر أن يتجاوز مأزق الموت. لذا وضعت مدينتها الصغيرة، أو مشروعها الثقافى الذى يسعى لإحياء ثقافة هذا المكان، بجوار عدة آثار خالدة، ومنها جبانة "تونا الجبل" الذى ينتظر بداخلها ملايين من مومياوات طيور الأيبس لكى تبعث وتغطى سماء الحياة الجديدة لهذه المدينة بعد البعث. هذه هى الفكرة الرمزية وراء المشروع وبدون أى مبالغة. كأن بجوار كل مدينة قديمة للمعرفة يمكن أن تنبت مدينة حديثة كجسر مادى تعبر من خلاله هذه المعرفة القديمة. شىء أشبه بنظام السلالة المستمرة للمعرفة: الجد ثم الابن ثم الحفيد، وهكذا تبقى شجرة المعرفة مزدهرة لأنها دخلت فى دورة من دورات الإنبات الطبيعى للحياة.
المدينة مكونة من 16 شاليهًا بجانب مركز ثقافى، مع صالة استقبال وصالة كبيرة للطعام ومكتبة. فى أعلى كل شاليه هناك قبة مخروطية، وهو نوع من القباب موجود فى جبانة زاوية سلطان فى المنيا. هذا الشكل المخروطى المتناسق للفكر، والقمة التى تتجه نحو السماء.
تنقسم المدينة لثلاثة قطاعات. القطاع الأول مزروع بأشجار الزيتون والنخيل، ثم القطاع الثانى الذى توجد به هذه الشاليهات والتى تؤجر للورش الجماعية أو للإقامات الفنية. وكل واحد منها له اسم عالم أو باحث أو موسيقار: ذو النون المصرى، موزار، جوته، كارل يونج، ابن عربى، إمبرتو أيكو، أفلوطين، وليم بليك. تجميعة فكرية وروحية من الشرق والغرب ومن مختلف العصور، اجتمعوا داخل هذه اليوتوبيا الحديثة. جاء حظى أنى أقمت فى شاليه "ذو النون المصرى".
الشاليه من الداخل عبارة عن مدخل به قبو مستطيل بعرض المدخل ثم يتلوه "أرك" يفضى إلى غرفة النوم وفوقها ترى التجويف الداخلى لهذه القبة المخروطية، بها خمس فتحات يتسرب النور من خلالها فى النهار. فى الليل تشعر بأن روحك تصعد داخل هذا الناقوس الحجرى وتتجمع هناك فى الأعلى فى انتظار أن تنطلق فى الصباح. وعلى يسار غرفة النوم هناك "أرك" يفضى إلى مساحة صغيرة كاستراحة بها شباك كبير يفضى إلى بلكونة مزروع بها شجرة الجهنمية التى تتكاثر فى أرجاء وزوايا المدينة. والإضاءات عبارة عن بروزات أو نتوءات فى الحائط، بحيث لا تفرض وجودها كوحدات إضاءة، بل مفاجأة أن النور يأتى من أماكن غير متوقعة.
أما قاعة الطعام فبها مائدة طويلة مثل مائدة العشاء الأخير للمسيح، استطالة الغرفة تشبه غرف الرهبان فى الأديرة القديمة التى كانت تُصنع فيها الموائد من الطين. هذه القاعة تفضى إلى مفاجأة أخرى عبارة عن باب خشبى ضخم يُفتخ فتنكشف غرفة المكتبة الحجرية والمصفوف بها مجموعة من الدكك السوداء الكنسية، أما فى الحائط فهناك تجويفات تشبه تجويفات الكتاكومب المجاور لها التى يدفن بها طائر الأيبس، لتوضع بها الكتب.
فى كل مكان هناك مفاجأة تنتظرك. أو ربما اندهاش الزيارة الأولى.
مشروع روحى متكامل لا يخلو من تطرف مثالى، ولا يخلو أيضا من إيمان، ولا يخلو أيضا من رغبة فى الخلود. كل هذه الدوافع وراء هذا المشروع تجعله تجربة بكل معنى الكلمة، مخاطرة التجربة، وطموحها، فالفكرة لا تزال فى امتحان.
أحيانا أكون متحفظا أمام هذه المدن الفاضلة، كونها تريد أن تتجاوز، بل تحلق فوق الواقع، وتضعنا أبعد من أحلامنا، وأمام استحالة تنفيذ هذا الحلم مرة أخرى لو فشل كما حدث فى حلم المعمارى حسن فتحى. ولكن هنا، فى هذا المشروع فهو قائم على المسئولية الشخصية لصاحبته، لا يوعد بشىء أكثر من امتداد رمزى للمكان القديم، مثل ابن صغير يكمل رسالة ما، وربما لا يكملها.
تسير فى المكان كأنك تسير داخل أسطورة حديثة أو حكاية. ليس فقط أسطورة هرمس هى ما تسيطر على المكان، ولكن أيضا أسطورة الحضارة المصرية فى علاقتها بالبعث والموت والمعرفة. المكان له خشونة الأسطورة، تراه فى الجدران السميكة التى استخدمت فيها أحجار جيرية قادمة من الفيوم، تراه فى القبة المخروطية، تراه فى الصحراء التى تلف المكان من الخارج وتتسرب رمالها رويدا رويدا لتغطى أجزاء من المدينة. لا تستقبل بسهولة هذا الجمال المختلف، شىء يهتز بداخلك، هل نحن فى معبد؟ أم فى ساحة صلاة؟ أم داخل كنيسة أو دير مهجور من رهبانه؟ أم فى مسجد له قبة متسامحة كمسجد السلطان حسن؟ هناك قدسية تلف المكان، وربما لا تتحملها لو قضيت عمرك هناك.
ربما خشونة الأسطورة يأتى من كونها تريد أن تتحق فى زمان غير زمانها، لذا ربما تحتاج لممارسة العنف ليتم التطابق مع الزمان الحديث. هناك احتكاك بين الفكرة القديمة والحديثة، لأن المكان القديم لم يكن يوتوبيا أما المكان الحديث هذا فهو يوتوبيا، لأنه مختلف ومنفصل ومتعال عما حوله. بالتأكيد هناك تناقض ما، وخطأ يرعى وسط هذه الاختلافات والأزمنة غير المتناسقة، ولكن حلم هذه السيدة هو الذى يحفظ هذا المكان. ما زالت عندها قوة دفع ليكون هذا التناقض عبارة عن تناقض لامع كحضور زمنين مختلفين بجانب بعضهما البعض والتعايش بينهما.
ربما الخوف أن تنفصل الأسطورة عن مكان منبتها كقشرة خارجية تسقط مع الوقت، وهو أحد مخاطر اليوتوبيات الحديثة: أن لا تجد الصيغة التى تمدها بالحياة. لذا عليها أن تبتكر لنفسها حياة واستمرارا وبعثا ذاتيا داخليا، دون الاعتماد على بعث قديم.
المفاجأة الدرامية بالنسبة إلىّ والتى وضعت الفصل الأخير من الحكاية، فى الجزء الثالث من هذه المدينة الذى يطل على الصحراء، خصصته صاحبة هذا الحلم للموت والبعث. ففى داخل هذه المكان بنت السيدة بيتها فى الآخرة، بنت قبرها لتدفن هناك تحت قبة على شكل نصف كرة، وبذلك وصلت الآخرة بالحياة، وأيضا لكى ترعى روحها مدينتها وهى ميتة، لتعود لتعيش فيها مرة أخرى عند البعث. من غرفتها تشاهد قبرها كل يوم. أصبح لفظ "القبر" مستخدما على لسانها ولسان العاملين هناك كأنه اسم لمحطة أتوبيس. ربما هو تحد آخر أنها تشاهد موتها يوميا كى يزول رهبته، وربما هذا هو البعث الحقيقى داخل الحياة نفسها.