من الواضح أن الدكتور محمد عبد المعطي وزير الري جاء إلي موقعه باستراتيجية ثابتة تتلخص في التعتيم علي سد النهضة والتقليل من شأن الأضرار التي ستتعرض لها مصر من جرائه.. وبمضي الوقت ينسي الناس الأزمة.. أو لعله يتصور ذلك.. إلي أن تنتهي الفترة التي سيقضيها في المنصب.. طالت أو قصرت.. ثم بعد ذلك يفعل الله ما يشاء.. المهم أن يهدأ الضجيج من حوله.. ويتخلص من وجع الدماغ والاسئلة التي تطارده.. وهو قد قال من قبل صراحة: "لا كلام عن سد النهضة".
وبالمناسبة.. هذا ليس جديدا علي وزارة الري.. فقد اعتاد كثير من وزراء الري السابقين علي ذلك.. وأشهرهم الوزير الأسبق د. محمود أبو زيد الذي اعتاد علي الإدلاء بتصريحات بعيدة تماما عن الواقع بشأن المخاطر المحدقة بالنيل وبحصة مصر تحديدا من مياهه.. وكثيرا ما خدرنا بلاءاته المحفوظة: لا خطر من دول الحوض.. لا مؤامرات علي حصة مصر.. لا سدود جديدة علي المجري.. ثم اكتشفنا بعد تركه للمنصب أن هناك مخاطر ومؤامرات وسدودا.. وأن تصريحاته كانت مجرد أمنيات للهروب من الحقيقة المؤلمة.. فكل ما يهمه أن يفهم الرئيس وتفهم الحكومة أن "كله تمام" فيستريحوا ويطمئنوا.
للأسف.. الدكتور عبد المعطي يعيد علي أسماعنا تجربة مدرسة "كله تمام" رغم كل ما ظهر من سوءاتها ومن تاريخها الأليم.. منذ نكسة 1967 وحتي اليوم.. ففي آخر تصريحات له في أسيوط يؤكد أن حصة مصر من مياه نهر النيل لن تنقص عن مقدارها المقرر عبر التاريخ وهو 55.5 مليار متر مكعب.. مشددا علي أن الدولة تعمل علي زيادة الحصة بالتعاون والترابط مع دول حوض النيل.
ياسلام.. من أين جاء الوزير الهمام بهذا اليقين وبهذا التأكيد؟!.. والله لو أنه حصل من دول حوض النيل.. أو من أثيوبيا والسودان.. أو حتي من أثيوبيا وحدها علي تعهد مكتوب بذلك.. باعتباره حقنا التاريخي.. لأقمنا له تمثالا في أكبر مياديننا.. لكننا نعلم جيدا انه لا يقصد بالضبط ما يقول.. لأنه - ببساطة - لا يملك الأدوات ولا الوسيلة التي يفرض بها الحفاظ علي حصة مصر وسط المتغيرات الهائلة التي طرأت علي ملف نهر النيل.. وأبرز هذه المتغيرات اتفاق دول الحوض من وراء ظهرنا.. وإقدام اثيوبيا علي بناء سد النهضة وفرضه كأمر واقع دون رغبة حقيقية في التفاهم معنا والإقرار بحقنا التاريخي وحصتنا المائية.
وقد كان حريا بوزير الري قبل أن يطلق تصريحه المرسل. ولا أريد أن أقول المضلل. أن يقرأ ما نشرته الصحف علي لسان د. مفيد شهاب استاذ القانون الدولي في نفس اليوم الذي كان يزور فيه أسيوط.. فقد قال د. شهاب إن "عدم مراعاة دول المنبع في حوض النيل مصالح دولتي المصب. مصر والسودان. واستمرار تجاهل اثيوبيا حقوق مصر التاريخية في مياه النيل. أمر يزيد من واقع الفقر المائي الذي يعاني منه المواطن المصري".. وأضاف ان مصر تعطي أولوية خاصة لمفاوضاتها مع السودان واثيوبيا لإعادة النظر في المواصفات المعلنة من جانب أديس أبابا بشأن تصميم سد النهضة.. والتي تتجاوز المتعارف عليه في بناء السدود.. وإذا استمر التنفيذ بهذه المواصفات ستلحق ضررا بالغا بالأمن القومي المصري.
وشرح د. شهاب أثناء افتتاح المؤتمر السنوي للجمعية المصرية للقانون الدولي مجموعة القوانين الدولية الخاصة بالمياه.. من التزامات فرضتها الاتفاقيات الدولية.. وبما يحقق التنسيق بين المصالح بين دول المنبع ودول المصب.
والآن.. من نصدق؟!.. وزير الري الذي يؤكد بلا دليل وبلا أي رؤية سياسية أن "كله تمام".. أم استاذ القانون الدولي الذي يؤكد أن مواصفات سد النهضة تضر بالأمن القومي المصري؟!
لا شك أن د. شهاب هو الأكثر اقناعا.. والأكثر واقعية.. فالفقر المائي أصبح واقعا يعاني منه المواطن المصري.. ومن لم ير من "الغربال" فعليه أن يذهب فورا إلي "حكيم عيون".