اسراء امام
الوسواس...ثواب الحدوتة وذنوب الرمز
مسلسل «الوسواس» تأليف الكاتب محمد ذو الفقار، وإخراج حسنى صالح. من المسلسلات التى قدمت حدوتة مميزة، لها عالمها الحر، ونهجها الخاص جدًا فى الكتابة. ولكنها تعثرت فى أكثر من منعطف، سواء فيما يخص شكل التنفيذ أو القرارات الخاصة بالسيناريو.
ولكن النقطة التى يجب قولها، والتى تحمل مفارقة ما، أن ما يمكن أخذه على مسلسل «الوسواس» قد ينتهى بالمفترج فى عمل آخر وظروف أخرى لافتقار المتعة، وربما التوقف عن المتابعة. وهذا ما لم يحدث أبدًا مع «الوسواس» بالذات، لأن سيناريو هذا المسلسل قادر وبشدة على القتال من أجل حكايته، شخصياته، وشكل المعالجة المتفردة التى استخدمها فى السرد. فهو برغم أنف كل شىء قطعة فنية تستحق الاحترام، أوجدت مفهومًا مغايرًا لخلق الخط الدرامى فى السيناريو المتسلسل، ولا تُشبه فى كل هذا إلا نفسها.
بين وسواس الرمز ودفء الحكاية
فى بلد نائية، مُجَهَلة الهوية. يُقتل الكبير، وتبقى السلطة فى يد حفيده الأقرب، بينما يعود الحفيد المُقصَى بسبب خلافات قديمة منذ زمن، ليشارك أخاه الميراث. الحفيد الأول يحكم بسلو الجَد الذى طغى، والحفيد الثانى يسعى إلى السلطة مُخطيًا على عباءة الدين الذى سبق وأن تربى بعيدًا عنه. الكل من حول الحفيدين يُكَمل إطار الصورة، سواء أهل البلد، أو الشخصيات التى يجمعها معهما تعامل جانبى. فالحفيد الأول همام «تيم حسن»، يمثل امتداد السُلطة الفاسدة، والحفيد الثانى حسنين «نضال الشافعى» يجسد رجل الدين المتطلع المنافق، أهل البلد الشعب، وبقية الشخصيات يتم توظيفها لإبراز نماذج معينة، ومنها صباح التى تَهَجّم على كرامتها متعصبو البلد بإسم الشرف، فلفقوا لها تهمة زنا بينما قام همام بالقصاص منهم رادًا لها حقها، ومن ثم لم يتورع عن فض بكارتها بنفسه مستميتًا فى إقناعها بحبه الزائف. صباح تمثل الشريحة العشوائية المعدمة التى يتاجر بها المسئولون، يستخدمونها لدعم وجاهتهم ومن ثم يرتشفون دماءها فى الظل. أما نوارة «هبة مجدى» فهى الشريحة الأكثر رقيًا التى يتنافس الكل على قرابتها، والانتماء إليها. وإن كانت نوارة من الشخصيات القليلة فى المسلسل التى تنطوى على جانب درامى بحت، ساهم فى حمو العراك بين الأخوين، والبلوغ بهما لمنطقة عداوة تخدم الحدث.
وعند هذه النقطة يمكننا أن نرصد أزمة من الأزمات التى وقع فيها السيناريو، وهى تطويع الأحداث لخدمة الرمز، وليس العكس. الرمز غواية ملتبسة، من يجنح إلى تطويعه لابد وأن يحكم لجامه، فإن ملكه نال الغرض، وإن أفلت زمامه هلك. فجزء لا يتجزأ من مفهوم الفن، يرتبط بمدى القدرة على صناعة الأحجية، المتفرج إن رأى كل شىء بوضوح زهد، وإنما بعض من التوارى حتى ولو بنسبة تكاد تكون معدومة، يبقيه على شغفه بل ويزيده. ومسلسل الوسواس، لم يتغاض أبدًا عن غض الطرف عن الرموز التى يقصد توظيفها، وإنما تعمد بطريقة ضرت ولم تنفع أبدًا فى التأكيد على رموزه بطريقة مباشرة، ف حسنين يقف أمام خواجة مجهول الهوية بطريقة غير منطقية أبدًا، ويخبره بأنه أهل لتسلم سلطة الحكم فى البلد، لأنه معه الشرعية والقانون المؤيد! من هو الخواجة؟، ما المصلحة التى تعود عليه من التدخل فى شئون حكم بلدة صغيرة نائية؟ وما الذى يجعله مؤهَلا لذلك من الأساس؟ لم يهتم المؤلف محمد ذو الفقار فى هذا المشهد وغيره، بالتحضير للأساسات الدرامية التى تخص منطق الحدوتة الأصلية، بقدر ما اهتم بحبكة الرمز، والإشارة إليه على لسان الحوار بهذه الطريقة المفضوحة بعض الشىء.
على الرغم، فإن الحدوتة التى طرحها ذو الفقار تملك مقومات درامية مغرية، ودافئة جدا. فالصراع الخفى بين الأخوين، الرمادية المُحيرة لجميع الشخصيات، والتحولات الحدثية التى لم تكن مُتوقعا إياها، كلها إيجابيات حافظت بدورها على قدر المتعة الكافى الذى يجعل المتفرج منتظرا لحلقة الغد، وبالتأكيد كانت ستبدو أقيم وأعلى شأنا إن نفض عنها صانعها الجهر برمزيتها لدرجة تُشَوِش على معناها أحيانا. وخصوصا أنه حينما كان يُسهِب فى التخلص من قبضة الرمز، تتضح ملامحه الكتابية، وقدرته على خلق مواقف وشخصيات مسلية، بها قدر من الإحساس والدفء وخفة الدم أيضًا. فشخصية والدة الأستاذ بهلول «إنعام سالوسة» من الشخصيات التى بدت فى كل مشاهدها طبيعية عفوية، لها منطقتها الخاصة وإطلالتها المميزة، لسانها متحرر من الحوار الخطابى الذى تراه بين حين وآخر على لسان بقية الشخصيات، وفى الوقت ذاته لم ينمعنا هذا أبدًا أن نغفل عن كونها جزءًا مما يحدث، فردًا من الجموع التى يتحدث عنها الكاتب. فهذه الشخصية تعد مدلولًا واضحًا على أن ذو الفقار يملك قلمًا قادرًا على الحكى الخالص الممتع، وتوحى بحيلته الواسعة الذكية فى التعامل مع الشخصيات. نفس المعنى نستخلصه من قدرته على إضفاء الهيبة التى من المفترض أن تكون على المواقف الدرامية، وخصوصًا الفارق والمفجع منها. نتبين هذا فى حلقات كشف عذرية صباح وما تلاها من اقتصاص همام أمام الحشود، المشهد الأول للشجار الجسدى بين همام وحسنين، مشاهد انتقام سنية من جاد، ومشهد الحلقة الأخيرة المثير للقشعريرة بحق، والذى ذبح فيه حسنين أخاه مرددًا قبلها آيات قرآنية.
سيناريو ذو خطة مؤجلة
فى الدراما المصرية، المسلسل الجيد دومًا لا يتهمل على نفسه، وإنما يبدأ بداية تحمل الكثير من الإبهارات التى تلفت نظر المتفرج، حتى وإن لم تكن جزءًا رئيسيًا من عظم الموضوع الذى يطرحه. والمسلسل السيىء، يبدأ مماطلًا، حتى وإن ظن أنه يفعل ما فى وسعه لكى يحظى بكل الاهتمام، ويظل حتى النهاية على موقفه من الإدعاء والغُلب. فى «الوسواس» نجد الحلقات الأولى تطل علينا بإيقاع رصين، غير متأهب للمفاجأة، ومُقِدمًا معطياته التى قد تبدو حينها غير مفهومة، لا يحسبها المتفرج بهذا البُعد الذى يكتشفه عنها بعد وقت، لأنه غير معتاد على هذه الطريقة فى التلقى.
كل حادثة درامية وقعت فى الحلقات الأولى من مسلسل «الوسواس» لم تكن اعتباطا، لم يُصغها الكاتب محمد ذو الفقار بغرض خلق افتتاحية مناسبة، أو بنية الاعتماد على المطبات الحدثية المعهودة، التى تملأ فراغات توقيت عرض الحلقات، لحين بلوغ مربط فرس القول الدرامى.
التمثيل
«تيم حسن» يعود بدور همام ليؤكد على قدرات الممثل المتفرد الذى بداخله، فتيم فى أوج أدائه يجمع بين اليقظة والغياب، نصف متنمر ونصف مُغيب، يتماهى مع الشخصية التى يلعبها، فيسافر بها بعيدًا عن المنطقة التى قد نتوقعها فيها حتى، يأخذها إلى مكان يخصها ويخصه، مكان يروق لنا حتى لو كان غير مألوف لم يطأه غيره. كل هذا يمنحه مساحة للارتجال، فهو يفاجىء الممثل الذى أمامه قبل أن يُذهل من يُشاهده، تيم فى دور همام اخيتار مميز لا يمكن أن يؤدى غيره الغرض.
«نضال الشافعى» من السيئات التى لن تُغتَفر لمسلسل الوسواس، فنضال أقل ما يقال عنه أنه لايجيد حتى تمثيل التمثيل، يبلغ فى مبالغاته الأدائية حدًا بعيدًا، ولا تسعفه التشنجات والتلونات المبتذلة فى طبقات الصوت.
«زينة» أدت صباح فى بساطة ومن دون تكلف، ولكنها تحتاج إلى شىء من التركيز، فزينة من النجمات التى تمتلك أكثر مما قد يبدو أنها تستطيع تقديمه.
آخر كلمتين:
_ مسلسل الوسواس، افتقر إلى تنفيذ إنتاجى قيم يدفع بحكايته إلى مظهر يخدم مضمونها.