الصباح
محمود صالح
مجانين «الثورة الثالثة»
كانت الحرائق تشتعل فى 22 منطقة ومبنى لأول مرة فى التاريخ المصرى المعاصر والقديم والوسيط خلال الأسبوع الماضى، لاحظت كم حدث انحطاط مريب فى أخلاق المصريين، وكيف اختفى تمامًا تقريبًا الشعور الطبيعى بالتضامن واللوعة والحزن على مصاب أو جريح أو فاقد لمصدر رزقه أو وقع على إيصال أمانة يتأهب لمستقبل غير سعيد فى أقرب سجن لمسكنه، طغت السياسة على إنسانية المصريين التى كانت تهب دائمًا فى الملمات وتتناسى أى شىء، وغلب على كل المناقشات البحث عمن هو السبب، ولم يكن البحث مهنيًا بأية حال، هب كل طرف لتدعيم وجهة نظر سياسية مسبقة، وقال البعض إنه نفوذ كبار الملاك والتجار الذين خططوا لطرد صغار الباعة الذين لن يرحلوا إلا «بمصيبة تاخدهم»، فى حين أكد خصوم النظام أن هذه المصائب العظمى نتيجة لصراع فى الأعالى بين أجهزة، وأن هذا مؤشر على غضب مكتوم بينها من أجل المزيد من النفوذ، لكن أغرب وأحقر ما لاحظته هو توجيه الأزمة فى اتجاه التبشير بـ «ثورة ثالثة» !
كان مصدر غضبى الشخصى من هذا الاتجاه ليس فقط تجاهل كوارث الآلاف من البشر والمئات من الأسر الذين سيواجهون ظروفًا قاسية بعد احتراق محالهم ومصادر رزقهم الوحيدة، خاصة أنهم من شريحة واسعة تجاهلتها كل الأنظمة عامدة، وجعلت من عدم نظامهم جزءًا من النظام، بل الغباء والبلاهة الشديدة فى التبشير أو تصور حدوث ثورة ثالثة.. ترى ما السبب فى أننى أستبعد تمامًا قيام هذه الثورة.. السبب الأول جوهرى جدًا.. ينبغى لى أن أصارحكم أننى بعد 5 سنوات من 25 يناير وعامان من 30 يونيو، وبعد لقاء آلاف المصادر والشخصيات الرئيسية فى هذه الأحداث بت مقتنعًا تمامًا أنه لم تقم فى مصر ثورة من الأصل، 25 يناير كانت لحظة اجتمعت فيها كل شروط الثورة على نظام فاسد بامتياز وجاهل بجدارة ومنحط بعمق، لكن ما جرى فى 25 وفى 30 يونيو كان صراعًا هائلًا بين دول ومؤسسات، سمحت بتحريك الأحداث.. إلى حدود معينة.. ثم إعادة الجماهير بهدوء فى توقيتات دقيقة «!»
لا أريد أن أزيد فأقول إن الثورة الوحيدة التى حدثت فى مصر كانت نتيجة انقلاب عسكرى واضح ومباشر ومحدد فى يوليو 52، بعد هذا الانقلاب تغير وجه الحياة فى مصر على المستوى الداخلى وعلى مستوى علاقة مصر بالعالم من حولها، أما ثورة 19 فكانت نصف ثورة، وأما عرابى فكان ثائرًا لم يجد من يخلص معه لقضية مصر سوى العظيم عبد الله النديم الذى عاش غريبًا مغتربًا ثائرًا ومثيرًا ثم منفيًا فى بلاد الله.. لكن لا 19 ولا عرابى ولا 25 يناير ولا 30 يونيو أرجوكم.. ثورة.
التعريف الأساسى لأى ثورة هو « تدمير البنى الاقتصادية والاجتماعية فى المجتمع وإعادة بنائها على أسس جديدة تماما».. التدمير ليس المقصود به العنف بل محو شكل كامل من الحياة تكون فيه الغالبية من الشعب مسحوقة تحت وطأة تحالف من الفساد والاستبداد، أما فى مصر ولأننا شعب طيب، فقد رضيت الغالبية العظمى بحاجات لا تمثل مطالب أى ثورة من الأصل، فى 25 يناير قال الجميع «ثورة يناير العظمى» فى حين كانت مصر هى البلد الوحيد فى العالم الذى أقر بحدوث ثورة فى حين ظل الديكتاتور الذى قامت ضده هذه الثورة مصانًا من كل سوء قبل أن يظهر فى حوارات تليفزيونية بعد ذلك ليحلل الأوضاع وليستشيره مذيع فى رأيه فى الملمات التى أصابت الوطن بعد تركه و«تخليه عن الحكم» !
أطمئنكم.. كل ما قيل لاعلاقه له بالحقيقة.. وكل ما ظهر تم إظهاره فقط لتعرف ما يراد لك أن تعرفه.. لتكون النتيجة فى النهاية هى أعقد وأمهر عملية تجديد دماء لنظام فى التاريخ.. الدليل على هذا أن جماعات الضغط هى نفسها التى لا تزال ممسكة بمقاليد القوة، وعلاقة مصر بإسرائيل لا تزال كما هى «بل زادت عمقا ومتانة»، ورجال الأعمال الفاسدين اكتسبوا قوة إضافية، وأصبحت الدولة تتذلل لهم أكثر بالقوانين والتشريعات كى يمنوا على هذا الشعب المسكين بالعمل داخل الأراضى المصرية، والإعلام زاد انكماشًا إلى حدود لم يعرفها من قبل، أما الفقراء فى مصر فهم يقاومون الاندثار حرفيًا تحت وطأة توحش مليارديرات مصر العظام.
لهذا كله كنت أتمنى أن ننسى الكلام الكبير الكثير عن الثورة الثالثة والصراع الدائر، وأن يفعل المصريون ما كانوا يفعلونه على مر العصور.. إنتاج الإنسانية فى أرقى صورها بين أبناء الشعب، لقد كان هناك شباب فى الرويعى وغيرها يحترقون فى حين كانت مواقع التواصل تتحدث عن التحليل السياسى للأزمة وسر الفيديو المرفوع فى الغورية، لقد كان صلاح جاهين يقول «الإنسانية هنا».. ولا يمكن أن تقوم لا ثورة أولى ولا ثالثة ولا خامسة فى بلد يتخلى عن إنسانيته إلى هذا الحد !
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف