عندما يدمغ الناس إنسانا بأى صفة سيئة أو سلبية أو حتى بصفة إيجابية بدرجة أقل عما هو منصوص عليه فى الأدبيات الصحيحة، فالأغلب أن هذه السمة تصاحبه حتى إلى القبر وما بعده فى التاريخ. يصعب على بعض البشر أن يدركوا سعة رحمة الله تعالى بعباده، حتى المذنبين منهم ما لم يشركوا بالله تعالى شيئًا «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا».
ويصعب عليهم كذلك استيعاب التوبة والندم على ما فات والرجوع إلى الله وشرعه وطريق الحق، وباب التوبة الذى يظل مفتوحًا حتى لحظات الموت أمام المذنبين للعودة والندم. والنموذج لما أقول الشاعر الفحل أبو نواس. من الناس من يرى حوله ملائكة أو شياطين، ولا شئ فى الوسط. وهذه نظرة خاطئة ومخالفة للوسطية المأمور بها فى الأديان. «فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ». ليس هناك إهمال أو نسيان لأى شىء صغيرًا كان أو كبيرًا، كله سيراه المرء فى الميزان.
أبو نواس أو الحسن بن هانئ الحكمى الدمشقى، شاعر عربى من أشهر شعراء العصر العباسى. يكنى بأبى على، وأبى نؤاس والنؤاسى. وعرف أبو نواس بشاعر الخمر، ظلت هذه السمة تطارده حتى القبر، وحتى اليوم فى التاريخ. لو سألت عنه فى مناهج التعليم فى المدارس العربية كلها، لعرفت أنه شاعر المجون وشاعر الخمر. حتى بعد أن تاب عما كان فيه واتجه إلى الزهد، وقد أنشد عدداً من الأشعار التى تدل على التوبة.
كتب أبو نواس فى معظم مجالات أو ميادين الشعر التى اشتهرت بين العرب فى الجاهلية وفى الإسلام، ومنها وفى مقدمتها المديح والهجاء والفخر، والخمر والشجاعة ومدح آل البيت عليهم الصلاة والسلام، والتغلب على الآخرين، وفى الزهد والتوبة كذلك.
أبو نواس من مواليد مدينة الأحواز من بلاد خوزستان جنوب غربى إيران سنة (145هـ / 762م)، وكانت أمه فارسية وتنقلت به الأسرة إلى بغداد والبصرة والكوفة ومصر.
وقد روى عن أبى نواس قوله: «ما ظنكم برجل لم يقل الشعر حتى روى دواوين ستين امرأة من العرب، منهن الخنساء وليلى الأخيلية فما ظنكم بالرجال؟» يقول كتّاب السير «وما كاد أبو نواس يبلغ الثلاثين، حتى ملك ناصية اللغة والأدب، وأطل على العلوم الإسلامية المختلفة، من فقه وحديث وتفسير، ومعرفة بأحكام القرآن، وبصر بناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه». لم يكن أبو نواس شاعرًا فحلًا فقط، بل كان عالمًا فى اللغة وفى العديد من العلوم الإسلامية. أبو نواس هو الذى قال:
دع المساجد للــعباد تسكنها ** وطف بنا حول خمار ليسقينا
ما قال ربك ويل للذين سكروا ** ولكن قال ويل للمـصلينا
وهو نفسه الذى قال عند التوبة:
ذُنُوْبِى مِثْلُ اَعْدَادِ الرِّمَالِ ** فَهَبْ لِى تَوْبَةً يَا ذَا الْجَلالِ
وَُعمْرِى نَاقِصٌ فِى كُلِّ يَوْمٍ ** وَذَنْبِى زَائِدٌ كَيْفَ احْتِمَالِي
اِلهِى عبْدُكَ الْعَاصِى أٰتَاك ** مُقِرًّا بِالذُّنُوْبِ وَقَدْ دَعَاكَ
إِنْ تَغْفِرْ وَأَنْتَ لِذاكَ أهْلٌ ** وَِإنْ تَْردُدْ فَمَنْ نَرْجُو سِواكَ
من قول أبى نواس حين قربت إليه الوفاة:
إِلهِى لَسْتُ لِلْفِرْدَوْسِ أهلاً ** وَلاَ أَقْوَى عَلَى النَّارِ الْجَحِيْمِ
فَهَبْ لِى تَوْبَةً وَاغْفِرْ ذُنُوْبِى ** فَإِنَّكَ غَافِرُ الذَنْبِ الْعَظِيْمِ
وَعَامِّلْنِى مُعامَلة الْكَرِيْمِ ** وَثَبِّتْنِى عَلَى النَّهْج الْقَوِيْمِ
رآه بعض أصحابه فى المنام فقالوا له: ما فعل الله بك ؟ فقال: غفر لى بأبيات قلتها فى النرجس: قصيدة تأمل فى نبات الأرض، والنظر إلى آثار ما صنع المليك
عيون من لجين شاخصات ** بأبصار هى الذهب السبيك
على قضب الزبرجد شاهدات ** بأن الله ليس له شريك
وفى رواية عنه أنه قال: غفر لى بأبيات قلتها وهى تحت وسادتى، فجاؤوا فوجدوها برقعة فى خطه:
يا رب إن عظمت ذنوبى كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظم
أدعوك ربى كما أمرت تضرعاً فإذا رددت يدى فمن ذا يرحم
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ ويستجير المجرم
مالى إليك وسيلة إلا الرجا وجميل عفوك ثم أنى مسلم
كيف نكون منصفين عند الحديث عن البشر، حتى لو كنا نحبهم أو نكرههم. والله الموفق