تابعت خبر الطائرة المصرية المنكوبة وأخبار من عليها، ورأيت بعض وجوهم الباسمة والضاحكة تحت سقف الحياة من المسرات والترحال، وكأنها تقول للموت أهلا بك نحن بك نعبر للخلود!
وتذكرت حالي في كل مرة أسافر فيها، ورغبتي في أن أخبر أمي عندما تسقط بي الطائرة(لا قدر الله) أن تقيم لي عزاء في بيتنا القديم، وأن تذهب إلى قبر جدتي وتخبرها أن تبحث عني وتعتني بي، وأن تطلق أختي الزغاريد...
كنت أتخيل أن هذا الفرح سوف يثبت قلبي وعقلي وروحي عند فزع الموت الرهيب.. وسوف يواسيني في عتمة أشلاء الطائرة في المحيط أو فوق الجبال...
لكن في كل مرة قبل السفر، كنت أنظر لأمي وأضحك، وأحضن أختي. ولا أستطيع أن أخبرهما بما يدور في قلبي حتى لا أفزعهما، ويخرجني من هذه الحالة أخي بقوله المعتاد:" بقولك إيه يا كبير الفلوس المصري اللى معاك ملهاش لازمة في الطائرة... طب بقولك إيه القميص دا متهيألي تسيبه هنا لحد ما ترجع... أنا بقول كمان الكوتشي دا سيبه مع القميص.. و..." وبعد لحظات الدموع والجو الصعيب الذي خيم علينا ينقلب الطقس إلى تقليب جماعي، لكنه على القلب كما العسل!
وأسافر على باب الله متحصنا بـ "لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا هو مولانا وعلى الله فليتوكل المؤمنون".
المؤمنون. يكررها الخناس الإنسي بسخرية وشماتة:"هذا إن كنت من المؤمنين..."!
ابتسم في وجهه مرددا:" كلي يقين أن الذي أوجدنا من العدم على هذه الأرض سيكون رحيما بنا في عدمية الضمائر التي كانت سببا في العبث بالحكمة الإلهية، وكانت سببا في موتنا.. نعم سيكون الله أكثر عطفا وحنوا من الذين على الأرض، سيتقبلنا قبولا حسنا وسيكرم ضيافتنا عنده.. هو لا يرضى بهذا أبدا، إنه يغضب لموت الإنسانية... وأيا كان ما صار من عبث الأقدار أم من عبث الأيادي، فهو يرحمنا ويعوضنا. أما أنت يا خناس ستموت بغيظك".
البسمة في هذه الحالات صدقة جارية! يا كل أم.. ويا كل أسرة رحل واحد منها إلى الله. ابتسموا عندما تتذكرونه بسمتكم هي طاقة النور له في عتمة اليم الغريق. ابتسموا. البسمة، هي فتيل الضوء لروحه التي تسلم عليكم وتحمل الهدايا إليكم. ابتسموا.
الوقت كفيل بأن يصنع البهجة، رغم كثرة النكبات وفقد الأحبة في حياتنا، إلا أننا نستدعى من رحلوا في ملامحنا، فثمة حالة لم أجدها في أدبيات النصوص الإنسانية المقارنة إلا في مصر وناسها.. حالة منفردة، وهي مصاحبة المفقودين واستحضارهم، والهمس معهم حد الضحك والبكاء معا.
عندما تغلف الحكمة الحزن ينبت جسر من الود والمداومة بين الأحياء والمفقودين، نراه دائما مرسوما على ملامح المحبة والطيبة في وجوه المصريين. لذلك هم آمنون في طرحهم وفرحهم.
مصر المنكوبة في أقدارها وفقدان أبنائها بالموت الكارثي أو بالسجن القمعي، لا يغير من أمر المصرية شيئا، حتى وإن انهالت المصائب القدرية أو العبثية. دائما نجدها صلبة، وضاحكة ومستقرة في مكانها؛ لتحرك الزمن بمشاعره المتناقضة، وتطهر بدنها من سمومه المتسيدة.
وما يبقى على ملامحها إلا لون طمي نيلها، ثابت. يتحدى الفناء بالوجود. وتعيشي يا ضحكة مصر، يا نور مزروع بين طيات جفون الأكفان بزرع أخضر نيللي اسمه: "المصري المفقود.. المصري المغترب في موته موصول بالمصري الراسخ الحي بحكمة الفقد". فما الذي يمكن للحطام أن يخبرنا..!
فَصَبْرٌ جَمِيلٌ...