الشيخ صالح كامل
كوامل -إلي أن يخرج الصندوقان الأسودان
إلي متي سيبقي الكثير من القنوات الإعلامية المصرية مصدراً لحصرية الإرتباك ووكالات لبث الإثارة ؟! بعدما كان التليفزيون المصري منذ بداية بثه متريثاً مدققاً، فلم يكن ينافسه أحد، هذا صحيح، ولكن التسرع والعجلة حين تصبح شعار المنافسة الوحيد، فإنها تلقي بالمشاهد والمتابع في متاهاتٍ لا حدود لها، وتزوده بمعلومات لا وجود لها، مدّعيةً الإنفراد والتميز.
قبل مدةٍ وجيزة إختطفت طائرة ركاب مصرية إلي قبرص من الإسكندرية، وسرعان ما تفتقت عبقريات البرامج الجماهيرية علي ألف سيناريو من تأليف فرق إعدادها وتنفيذ مقدميها.. دون إنتظار لبيانات رسمية من الحكومة، أو الشركة المصرية للطيران، وكان أن قدموا للناس مختطفاً من محض إختلاقهم، صدموا زوجته وأهله ومعارفه.. وصدموه أيضاً.. ثم صدموا الناس جميعاً حين أقروا وإعترفوا أن الخاطف رجلٌ أخر، واعتذروا.. وما أسهل الإعتذار لدي المتسرعين، وما أهونه إذا ما فُقِد التريث. الخاطف الحقيقي كان رجلاً مختلاً، أراد أن يقابل ليلاه في قبرص بكل بساطة ورضيَ أن يكون « قيس المصري « وانتهت الحفلة. دون أن نتعلم منها درساً واحداً في أهمية التأكد من الخبر قبل إشاعته، ولم نتعلم معني الوقت ومعني إضاعته. لقد أمسي هذا الفيلق من مقدمي هذه البرامج، رواداً في صناعة الفوضي، وأساتذةً ( وأستاذات ) في شغل الرأي العام بكل ما يخطر علي بالهم من موضوعات، وكل ما تقدمه مطابخ إعدادهم من وجبات، حتي غدا الكثير من هذه البرامج يُنظرُ إليه علي أنه « نوع من الكوميديا « التي لاتروق للجادين ولا ترقي لأذواق الكثيرين. ولو ذهبنا إلي مؤشرات قياس المشاهدة بصدق وواقعية، لوجدناها قد تنعدم نسبتها من المشاهدة خاصةً حين وقوع حدث أو وقوع أمر داخلي مصري - وكل ما يهم المصريين يهم العرب جميعاً بلا شك.. فالكل يذهب إلي قنوات تُوصَف بالتعقل - مع قلتها - ويستقي منها صحيح الخبر المصري.. بعدما أسهمت الأهواء وساعدت شخصنة الموضوعات في هذا النفور الجماعي من هذه القنوات المقصودة والتي يظهرفيها ذات الوجوه التي تظهر في كل زمان ومكان.
في فجر الخميس التاسع عشر من مايو لم تغفل العيون المصرية ولاالعربية وبعض العيون العالمية التي يعنيها الأمر، منذ خروج نبأ إختفاء الطائرة المصرية القادمة من باريس إلي القاهرة - وكانت الساعة بالتوقيت المصري نحو الثانية وخمس وأربعين دقيقة صباحاً. وتحركت الدولة المصرية من أعلاها إلي كل المستويات تواكب الحدث وتتابع الموقف وتتخذ ما يمكن لها إتخاذه من إجراءات.. ولا أنكر أن العقلانية والتريث سادت علي كل هذه التصرفات والتي رفضت التكهن دون حقائق أو معلومات مؤكدة، مبقيةً علي كل الإحتمالات دون ترجيح فرضية علي أخري، حتي تتضح الأمور. ومع ساعات الصباح الأولي، إنطلقت جوقةٌ من مقدمي البرامج، ولن أقول في مصر فقط، ولكن واكبتها في ذلك بعض القنوات العربية الإخبارية.. وتساءلت إحداها بتعجب : لقد مرّت حتي الآن ثلاث ساعات ولم تُصدِر مصر معلومات وافية أو حقائق كافية ّ!! في الوقت الذي كان فيه وزير الطيران المدني يعقد مؤتمراً صحفياً للمحليين والأجانب ويؤكد فيه علي كل الإحتمالات، ويردد : نحن لايمكن أن نصف الطائرة الآن بغير لفظ ( مفقودة ). وخيراً فعلت الحكومة المصرية بتشكيل خلية الأزمة عالية المستوي.. وخيراً فعل التليفزيون المصري بتغطية وقائع مؤتمر وزير الطيران المدني..
رغم ما شاب التغطية من ربكة ربما بسبب سرعة الأمر.. ولكن في الناحية الأخري.. لم تفعل القنوات التي أعنيها ولا الإعلاميون الذين أقصدهم أي خير.. كل ما عملوه أنهم ضخموا كل إشاعة وحولوها إلي أخبار - سبق، إنفراد، وحولوا الخبر البسيط إلي كارثة قبل صدور أي بيانات مؤكدة أو رسمية.. وعادةً ما يستغرق هذا النوع من الأحداث ساعاتٍ طوالا وربما أياما أطول، للوصول إلي الحقيقة والتي لا تظهر إلابالعثور علي الصندوقين الأسودين - ورغم أن لونهما بني يميل للإحمرار - إلا أن الأسود أطلق عليهما لأنهما لا يأتيان إلا بالأخبار السوداء.وتنطلق سريعاً الأسئلة من المذيعين والمذيعات إلي من تتم إستضافتهم، وتأخذ الأسئلة نوعاً من الإستفزاز الذي يطيح بأكثر الناس تعقلاً ورويةً.. وكأنها تريد أن يقال سريعاً : أن الدولة مقصرة، وتتوالي الإتهامات لكل مسئول.. قبل ظهور أية نتائج أو بيانات رسمية. تخيلوا أيها الأعزاء.. أن هناك من رشح نظرية إنتحار الطيار.. وتناقلته محطة CNN من هذه الزاوية أو الفرضية السوداء.. وكأنهم لا يعرفون أن الإنتحار في شريعتنا حرام، وأن قتل النفس بغير حق حرام.. وقبل أن يعرفوا حتي من هو قائد الطائرة، والذي أحتسبه شهيداً ومن معه بحول الله.. الكابتن محمد سعيد شقير، من الكفاءات المميزة في شركة مصر للطيران وله 6275 ساعة طيران منها 2101 علي نفس طراز الطائرة A320.. وكما ذكرت مصادر الطيران المدني اليوناني كان في مزاج جيد، وقدم الشكر أثناء عبوره الأجواء اليونانية لمراقب الطيران اليوناني باللغة اليونانية.. وقد تحدث كثير من الناس المقربين منه بعد الحادثة عن أخلاقه وإيمانه.. مساعد الطيار محمد أحمد عاصم، هل إستمع أولئك المنظّرون إلي حديث والده الملئ بالإيمان بالقضاء والقدر والذي يؤكد أن ولده الذي فقده كان صالحاً..
وفي الوقت الذي عمدت فيه شركة مصر للطيران أن تأتي بثلةٍ من الخبراءالنفسيين والإجتماعيين لإستقبال أهالي الضحايا مراعاةً لحالاتهم النفسية وتقديراً لوجعهم.. وكذلك فعلت الجهات الفرنسية، فقد كان ربع ركاب الرحلة منهم.. في هذا الوقت كانت مذيعات ومذيعون القنوات التي أعني، توجه دون رحمة أسئلة حارقة لأهالي الضحايا، دون تقدير لحزنهم، أسئلةً تُغضب أشد الناس حلماً، فكيف بأشد الناس ألماً.. لم تكن حالات الناس تهمهم، كانت الإثارة ولو علي حساب المشاعر هي ما يبحثون ويرغبون في الحصول عليه.
وإنني إذ أتقدم بخالص الدعاء والمواساة والعزاء لهذه الأسر أدعو الله أن يتقبل أبناءها قبولاً حسناً.. وأن يلهم الأهل الصبر والسلوان.. والعزاء موصول لمصر ولكل ذوي الضحايا قيادةً وشعوباً.