جابر عصفور
رؤى نقدية وداعا مصطفى لبيب
فقد قسم الفلسفة وكلية الآداب فى جامعة القاهرة عالما فاضلا وصديقا عزيزا هو الدكتور مصطفى لبيب الذى عرفناه
بكتاباته المتميزة وأبحاثه المستنيرة وكتبه التأسيسية وترجماته النموذجية. ولقد ولد مصطفى لبيب فى سبتمبر1939 وتخرج فى كلية الآداب عام 1960 قبل أن أدخلها أنا بعام واحد. ولكنى عندما دخلت كلية الآداب وتخرجت فيها عام 1965، كنت أقرأ لمصطفى لبيب مقالاته فى مجلة “المجلة” التى كنت أدمن قراءتها حتى من قبل أن أدخل الجامعة، ومجلة “الفكر المعاصر” التى كانت حديثة النشأة فى ذلك الوقت، وكان المرحوم فؤاد زكريا رئيس تحريرها الأول، إن لم تخنى الذاكرة. ولذلك تعرفت على مصطفى لبيب بوصفه معيدا فى قسم الفلسفة وبوصفه زميلا أكبر لي، وكانت المناقشات العلمية هى أول ما ربط بيننا. وسرعان ما تبينت موسوعية ثقافة العزيز مصطفى لبيب، وهو الأمر الذى جعلنى أتعلم منه – فيما تعلمت- أن الموسوعية لازمة لكل باحث واعد فى مجالات الآداب والعلوم الإنسانية، فكما أن الباحث فى الفلسفة ينبغى أن يكون على إلمام بكل فروعها ومجالاتها، فمن الضرورى للباحث نفسه أن يكون ملما بالدائرة المعرفية الواسعة التى تتمازج فيها الاختصاصات وتتجاوب فيها المعارف، وأذكر أن هذا أول ما تعلمته من مصطفى لبيب الذى كان يتميز ببشاشة الوجه ودماثة الخلق فى كل الأحوال. والحق أننى وجدت فيه ما يكمل صفاتي، فأنا انفعالى وهو هادئ إلى أبعد حد، وأنا غضوب فى كثير من الأحيان وهو لا يكاد الغضب يعرف طريقه إليه فيما كنت ألاحظه دائما، وأنا متقلب ملول وهو صبور ثابت على صداقته مع الناس، لا يتخلى عنها ولا عن حبه لهم، ولذلك لم أعرفه مختلفا اختلافا يذكر مع أحد، ولم أره غاضبا من أحد ولا حتى ثائرا على خطأ جسيم يدفع إلى الثورة. وما أكثر ما كان يسعى إلى أن يعدينى بصفاته الجميلة التى لا أزال أفتقدها رغم كل هذه السنوات الطويلة التى مرت على صداقتنا. وظل حتى قبيل وفاته يحاول دعوتى إلى الصفح عمن أساءوا إليّ، وإلى العطف على الذين أخطأوا فى حق أنفسهم قبل أن يخطئوا فى حق غيرهم. وقد ظلت صفات السماحة ملازمة له منذ أن عرفته إلى آخر مكالمة تليفونية تلقيتها منه قبيل وفاته بحوالى أسبوعين، وذلك قبل أن يحول بينى وبينه مرضه الأخير الذى أفضى به إلى الموت فحرمنا منه.
ولا أزال أذكر له أننى بعد أن حصلت على درجة الدكتوراه سألنى هل ستنشرها فى كتاب؟ فقلت له: إننى لا أعرف ناشرا أتقدم بها إليه، فطلب منى أن أعطيها له كى يتولى نشرها هو فى دار نشر أسسها مع قريب له. وبالفعل أعطيتها له، وصدرت الطبعة الأولى من كتابى “الصورة الفنية فى التراث النقدى والبلاغي” سنة 1974 من دار الثقافة التى كان موقعها فى آخر شارع الفجالة. وقد نجحت الطبعة الأولى ولاقت إقبالا واسعا، خصوصا فى المغرب كما أخبرني، وسرعان ما نفدت الطبعة الأولى وأصبح اسمى معروفا وأصبح ميسورا لى أن أنشر كتبى اللاحقة فى دور نشر أخري. وحدث أن تلقيت دعوة للعمل أستاذا زائرا فى جامعة وسكوسنسن- ماديسون بالولايات المتحدة الأمريكية عام 1977، وبالفعل سافرت إلى هذه الجامعة التى أتاحت لى أن أكون على صلة وثيقة بمناهج النقد المعاصر، ابتداء من البنيوية وليس انتهاء بنقد خطاب الاستعمار، فضلا عن الهرمنيوطيقا والسيميوطيقا. ولكنى كنت قد أنجزت كتابى “مفهوم الشعر” ولم أجد وقتا لتقديمه إلى ناشر، فطلبت من مصطفى لبيب أن يقوم هو بنشره وبمراجعة بروﭬـات الطبع فى الوقت نفسه. وقبل مصطفى أن يقوم بذلك فى سماحة نفس ورحابة صدر لم أكن أعرفها فى الكثير من زملائي، ولذلك سافرت إلى الولايات المتحدة مطمئنا، وخرج الكتاب إلى النور وتم توزيعه وأنا غائب فى الولايات المتحدة. وأذكر أننى كنت شاكرا له إلى أبعد حد وأنا أعمل مطمئنا فى الجامعة التى ذهبت إليها. ولم أكن أتوقف عن زيارة المكتبات الأكاديمية التى كانت فى مدينة ماديسون، وما أكثر ما اقتنيته من كتب كانت الأساس لمكتبتى الخاصة فى النقد الأدبي. وفى إحدى جولاتى ما بين المكتبات عثرت على كتاب “ولفسون” عن فلسفة المتكلمين، وقد شدنى عنوان الكتاب إليه، وأخذت أقلب صفحاته فى مجلده الضخم، وخطر على بالى مصطفى لبيب وأنا أتصفح هذا الكتاب الذى كنت أعرف أنه يدخل فى دائرة اهتماماته، واشتريت الكتاب الضخم بعدد غير قليل من الدولارات، وقلت لنفسى هذا الكتاب أفضل هدية لأخى مصطفى لبيب. وعندما عدت إلى القاهرة أعطيته الكتاب وكنا فى أواخر السبعينيات، وفرح بالكتاب فرحا بالغا، وقرر أن يفرغ تماما لترجمة هذا الكتاب الضخم والصعب فى آن. وظل يعمل فى ترجمة هذا الكتاب ما يقرب من عشر سنوات، ذلك لأن ترجمة هذا الكتاب لم تكن أمرا يسيرا، فهناك الجانب السهل وهو ترجمة النص، لكن هناك ترجمة المقتبسات التى لابد من الرجوع إليها فى مصادرها الأصلية ونقلها من المصادر الأصلية على حالها، وقد يزداد الأمر صعوبة عندما يكون النص المقتبس فى الكتاب الإنجليزى مأخوذا من طبعة غير الطبعة الموجودة فى الطبعات المتاحة فى مصر. وهناك صعوبة ثانية فى ترجمة مثل هذه الكتب، وهى أن المؤلف – بوصفه مستشرقا - قد يلتبس عليه النص الأصلى فى مصادره العربية، أو يسيء فهم بعض النصوص، أو يفسرها تفسيرا غير دقيق، أو غير بريء، وعندئذ لابد للمترجم المتخصص أن يرد على المؤلف بما يراه تصويبا أو اختلافا أو تصحيحا أو تدقيقا فى الهوامش. ولهذا كانت ترجمة الكتب الأصول مثل كتاب “ولفسون” عملا صعبا إلى حد كبير، ولم يكن مصطفى لبيب فى ذلك يبدأ من فراغ، فقد تتلمذ على أساتذة عظام وتعلم منهم ترجمة مثل هذه الكتب الأصول التى كان يكتبها كبار المستشرقين فى أوروبا، كل فى اختصاصه. ولابد أن أذكر هنا أن أساتذتنا الكبار قد أورثونا تقاليدهم العظيمة فى الترجمة فى أعمال من مثل التى ترجمها أستاذنا المرحوم محمد عبد الهادى أبو ريدة، سواء فى ترجمته لكتاب دى بور “تاريخ الفلسفة فى الإسلام” أو كتاب آدم سميث “الحضارة الإسلامية فى القرن الرابع الهجري” أو كتاب ﭬـلهاوزن “الدولة العربية”. وكلى ثقة أن التقاليد التى أصّلها أساتذتنا الكبار هى التقاليد التى مضى عليها صديقى مصطفى لبيب، وهى نفسها التى كانت ملهمة له فيما كتبه من أبحاث عن الترجمة. وأخيرا انتهى مصطفى لبيب من ترجمة كتاب “ولفسون” سنة 2004، وجاء إليّ فى مكتبى بالمجلس الأعلى للثقافة، حيث أنشأت المشروع القومى للترجمة، نواة المركز القومى للترجمة– وهو المركز الذى قمت بتأسيسه وإنشائه- وكان فرحا، يملأ السرور محياه، وقال لى ها أنذا أرد إليك هديتك لكى تنشرها، وإذا بى أفاجأ بمجموعة ضخمة من الأوراق التى تضم ترجمته لكتاب “ولفسون” فأخذت منه الكتاب وأعطيته للمسئول عن النشر موصيا إياه بأن يتم طبع هذا الكتاب فورا، ولكن بيروقراطية المساعدين الذين كانوا يعملون معى عرقلت ما طلبته وطبع الكتاب فى العام التالى 2005 إن لم تخنى الذاكرة، وما أذكره على وجه اليقين أننى أنشأت جائزة جديدة هى جائزة رفاعة الطهطاوى فى الترجمة وقدرها مائة ألف جنيه تعطى لأفضل عمل مترجم كل عام، وجعلت لجنة التحكيم فيها لجنة عربية تضم كبار المترجمين من العالم العربى ومصر، وأذكر أنه كان من بين أعضائها زميلى الدكتور محمد عنانى – مد الله فى عمره - وكانت ترجمة مصطفى لبيب لكتاب “ولفسون” أحد الكتب المعروضة على اللجنة، وفازت ترجمة مصطفى لبيب بالإجماع بجائزة رفاعة الطهطاوى سنة 2009، وكم كنت فرحا بها وبه؛ فالسعادة التى كانت تغمر وجهه كانت سعادة عالم حقيقى بتكريم إنجاز مهم له يستحق الفخر فعلا. ويبدو أن التجربة الصعبة التى عاناها مصطفى لبيب فى ترجمة هذا الكتاب هى التى دفعته إلى أن يكتب أكثر من بحث عن الترجمة بشكل عام، وعن ترجمة الكتب الخاصة بالتراث الفلسفى العربى بوجه خاص. وفى هذا أذكر بحثه عن “دور الترجمة فى التواصل بين الحضارة الإسلامية والحضارات الأخري” سنة 2011، وعن “الترجمات اللاتينية للعالم العربى فى العصر الوسيط” فى العام نفسه، وغير ذلك من الأبحاث.
ولا تزال ترجمة مصطفى لبيب بجزءيه ماثلة أمامى فى مكتبتى الخاصة أتأملها وأنا أكتب هذا المقال، فيخايلنى وجه مصطفى الباسم دائما، الراضى أبدا، السمح فى كل الأحوال، فأقول له إلى لقاء أيها الصديق العزيز.