احمد عبد المعطى حجازى
لا للغــزاة!.. ولا للطغــاة!
أواصل حديثى عن النهضة المصرية التى آن لنا أن نعود إليها، وأن نستأنفها بعد أن تنكرنا لها وتخلينا عنها،
وسمحنا لأعدائها بإعادتنا إلى عصور الانحطاط التى تخبطنا فى ظلماتها الموبوءة أكثر من ألفى عام، ولم نخرج منها إلا بعد أن أفقنا على احتلال الفرنسيين لبلادنا، ورأينا المسافة الفاصلة بيننا وبينهم، وعرفنا كيف نهضوا، وكيف انتزعوا أنفسهم من سجون الماضي، وكيف حطموا أغلالهم، وحرروا عقولهم، وانتشروا هم وأمثالهم فى العالم، يفرضون وجودهم، ويملون إرادتهم، وكيف بقينا نحن فى كهوف الماضى نتوارث البؤس والذل، ونحتمى بالخرافة والطغيان.
لكننا لم نكد نفتح أعيننا على هذا الواقع وما يفصل فيه بيننا وبين هؤلاء الذين احتلوا بلادنا حتى أفقنا، وبقدر ما طالت عصور الانحطاط فى بلادنا، وتتابعت حلقاتها ووصلت بنا إلى صور خيالية من صور الموت والانقراض، بقدر ما تحققت النهضة فى سنوات قليلة، وفى صور مكتملة كأنها كانت متحققة من قبل منتظرة فقط أن يزاح عنها الستار!
هكذا فى أقل من قرن ولدت مصر من جديد.
فى القرن الثامن عشر الميلادى (الثانى عشر الهجري) وبالتحديد يوم الجمعة الرابع والعشرين من ذى الحجة سنة ألف ومائة وأربعين هجرية، وقف المصريون جميعا ينتظرون أن تقوم القيامة، وأن ينقلهم ملك الموت إلى العالم الآخر، كما تنبأ بذلك العارفون من أهل الديانات الثلاث بعد أن ظهرت لهم ـ كما زعموا ـ علامات النهاية، لكن القيامة لم تقم لأن أولياء الله الصالحين (السيد البدوي، والدسوقي) تشفعوا للمصريين فتأجل قيامها، لتتوالى الأحداث التى خرجت بها مصر من عصور الانحطاط، ودخلت عصر النهضة، وحققت فيه ما حققت من إنجازات اعتبرتها معجزات، وتحدثت عنها أو عن بعضها فى مقالات سابقة.
فى مقالة الأربعاء الماضى تحدثت عن المعجزة التى حمل فيها المصريون السلاح بعد أن منعوا من حمله أكثر من ألفى عام ليقاوموا المحتلين الفرنسيين والإنجليز، ويطردوهم من مصر، وليواصلوا القتال بعد ذلك فى الجزيرة العربية، والسودان، واليونان، وبلاد الشام، والأناضول، فتتوالى انتصاراتهم، وتتحول مصر على أيديهم من ولاية عثمانية إلى إمبراطورية تهدد إمبراطورية العثمانيين، وتثير مخاوف الدول الاستعمارية الأوروبية، فتقف إلى جانب السلطان العثماني، وتفرض على المصريين أن ينسحبوا من الأراضى التى استولوا عليها ما عدا السودان.
حدثتكم عن هذه المعجزة الكبرى بالأمس، وأريد اليوم أن أقف أمامها لأجيب على أسئلة نطرحها على أنفسنا دون أن نصل إلى إجابة واضحة، وأولها سؤالنا عن الدور الذى أداه المصريون فى هذه الانتصارات العسكرية المدوية التى قادها محمد علي، وشارك فيها أبناؤه ومن التحق بهم وعمل معهم من الأوروبيين وغير الأوروبيين.
هذا الدور الذى أداه محمد على فى هذه الانتصارات ليس هناك من يجهله، أو يجادل فيه، فمحمد على هو القائد الملهم الذى تحقق بالنهضة المصرية، وتحققت النهضة المصرية به، رجل غريب وجد نفسه فى مصر أمام إرهاصات انحاز لها وتبناها وأعطاها كل ما أوتى من ذكاء ودهاء وشجاعة ومهارة، وقدرة على التوقع والمناورة، ووفر لها كل الوسائل والخبرات التى تحققت بها النهضة، وانتصرت فى كل الميادين، وفى معظم المعارك التى خاضتها.
محمد على معجزة أخرى من معجزات النهضة المصرية التى أسهم فيها الكثيرون، لكن النهضة المصرية تحققت فى النهاية بأيدى المصريين، أو أن الذى تحقق فيها تحقق بأيديهم.. الشيوخ والعلماء الذين رفضوا الوالى الذى أرسله السلطان العثماني، وفرضوا عليه محمد على واليا على مصر مصريون.. وأعضاء البعثات التى أرسلت إلى فرنسا لتتعلم فنون الحرب والطب والصيدلة والهندسة والفلك، وتترجم مصادرها إلى اللغة العربية مصريون.. والجنود الذين فتح بهم إبراهيم عكا، ودخل بهم الأناضول، وهدد استامبول مصريون.. وقد كنت أحب أن أنقل هنا ما سجله القادة والخبراء الأجانب أمثال الكولونيل سيف ـ سليمان باشا الفرنساوى والبارون بوالكونت، والمارشال مارمون من شهادات حول كفاءة الجندى المصري، لكن المساحة لا تسمح، ويكفى أن نقرأ ما قاله كلوت بك فى شهادته، قال: «ربما يعد المصريون أصلح الأمم لأن يكونوا من خيرة الجنود، لأنهم على الجملة يمتازون بقوة الأجسام، وتناسب الأعضاء، والقناعة، واحتمال المشاق، ومن أخص مزاياهم العسكرية الامتثال للأوامر، والشجاعة، والثبات عند الخطر». أقول إن هؤلاء الجنود مصريون، والعمال والفلاحون الذين التحقوا بالمصانع التى بناها محمد علي، والأراضى التى رواها مصريون.. ولو أن النهضة كانت مشروعا فرديا بدأه محمد على لانتهت برحيله، لكن النهضة المصرية كانت إرهاصات سبقت محمد على، وكانت إنجازات ومطالب ونضالات ومعارك استمرت بعده، فإذا كانت النهضة تدين بالكثير لمحمد على ولابنه إبراهيم وحفيده إسماعيل، فهذا يحسب لهم، وتظل النهضة هى نهضة مصر، ونهضة المصريين الذين لم يكونوا دائما على وفاق مع محمد على وخلفائه، خاصة حين تراجع النشاط العسكرى دون أن ينقطع، فقد حارب المصريون فى الحبشة، وحاربوا إلى جانب الأتراك فى القرم وجزيرة كريت، وحاربوا إلى جانب الفرنسيين فى المكسيك، لكنهم صرفوا معظم جهودهم لنشر التعليم، وبناء مؤسسات الدولة التى كانت تتحول بخطى سريعة من ولاية تابعة لإمبراطورية دينية متخلفة، إلى دولة وطنية حديثة تنقل عن الأوروبيين علومهم الطبيعية، وقوانينهم الوضعية، ومبادئهم السياسية التى اعتنقها المصريون، وناضلوا دفاعا عنها، وتلك معجزة أخرى من معجزات النهضة تستحق أن نقف عندها، وأن نتأملها، وننتفع بها فى نضالنا الراهن من أجل الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإذا كانت النهضة قد أعادت لنا دولتنا المستقلة، وإذا كنا نعتبر هذا معجزة، فالديمقراطية التى حملتها لنا النهضة معجزة أخري، وربما كانت الديمقراطية أحق بأن تسمى كذلك.
لقد عرفنا الدولة المستقلة، وعشنا فى ظلها طوال تاريخنا القديم، فعودتها واقع معاد، وحق مسترد، أما الديمقراطية فهى نظام لم نعرفه من قبل، بل هى نظام يظن بعضهم إلى اليوم أننا لسنا مؤهلين لفهمه واحترامه، والتعامل الإيجابى معه، لأننا عشنا كل تاريخنا السابق فى ظل الحكم المطلق المخلوط بالدين، ولأن الديمقراطية تستند لثقافة سياسية، وأوضاع اقتصادية واجتماعية لم تتوافر لنا، ولأننا شرقيون ولسنا غربيين، ولأننا مسلمون فالديمقراطية حرام، لأنها تجعل الحكم للشعب، والحكم فى نظر هذا البعض لا يكون إلا لله، ومن ينوب عنه، والديمقراطية بناء على هذا كله مرفوضة!
غير أن الديمقراطية التى لاتزال حتى اليوم تواجه هذا العداء من هنا ومن هناك، فرضت نفسها فى مصر فيما لا يزيد على نصف قرن، وفرضتها النهضة وحولتها إلى شعار وطنى يرفعه المصريون على اختلاف طبقاتهم، ويدافعون عنه، ويضحون فى سبيله بحريتهم، ولا يبخل عليه بعضهم بروحه ودمه، وهو تطور يثير الدهشة، لكنه مع ذلك تطور مفهوم، فليست الديمقراطية المصرية إلا الوجه المشرق للوطنية المصرية، والتعبير الأصدق عنها، وهذا هو المعنى الذى عبر عنه العرابيون فى شعارهم الذى أعلنوا فيه أن »مصر للمصريين«، لا للغزاة! ولا للطغاة!