البديل
عبد الفتاح ماضى
قضايا رأس المال الاجتماعي للمصريين
في النضال السياسي من أجل قضية ما عادة ما يظهر نوع من تقسيم العمل، فالمجتمع بقواه المختلفة يضغط من أجل قضايا تمس أفراده بشكل مباشر والتي عادة ما تكون قضايا محدودة أو فئوية، بينما السياسيون والأحزاب يضعون بعض هذه القضايا على أجنداتهم السياسية لتصبح مسائل سياسية عامة تحتاج إما إلى قوانين أو سياسات وتدور حولها النقاشات والصراعات بما في ذلك التنافس الانتخابي في الدول التي بها انتخابات ديمقراطية حقيقية، أو يتم الضغط بها لتغيير نمط الحكم وتحقيق الانتقال إلى نظام ديمقراطي في الدول الفردية والتسلطية.

أي ليس مطلوبا من الأطباء أو القضاة أن يكون لهم أجندة سياسية كما يفهم البعض، أو أن تتحول الجامعات أو النقابات إلى ساحات لحل الخلافات السياسية. وإنما ما هو ضروري هو أن يغضب الأطباء إذا ما انتهكت كرامتهم، وألا يعجر أساتذة الجامعات عن التحرك إذا تم تهديد استقلال الجامعة بأي شكل من الأشكال التدخل الأمني أو الإداري، وألا يسكت الطلاب عن فصل أو سجن زملائهم بممارسات تعسفية دون أي قدر من الشفافية والعدل، وألا يقبل القضاة تدخل السلطة التنفيذية في شؤونهم وإنْ كان هذا التدخل يأخذ شكل منحهم مكافآت مالية دورية دون الإستناد إلى أي نظام شفاف ومنصف وفي الوقت الذي تئن فيه فئات آخرى.

ومن الضروري أيضا أن يترتب على هذا بالتدريج قدر من التضامن الجماعي المشترك في بعض القضايا. فبغير هذا يفرط الشعب في رأسماله الاجتماعي ويترك زمام أموره لأقلية أو طبقة تحتكر المجال العام وتسخر السلطة والثروة لمصالحها الضيقة. وفي النهاية الشعب بفئاته المختلفة هو الذي يدفع الثمن.

***

هناك على الأقل أربع قضايا حيوية واضحة وضوح الشمس يجب أن يلتف المصريون حولها بغض النظر من موقفهم من المشكلة القائمة منذ يونيو 2013 ومن السلطة القائمة اليوم. ولا أقصد هنا تجاوز هذه المشكلة، فلا مفر من حسم الصراع السياسي لصالح مبادئ وأهداف ثورة يناير التي تعبر عن مصالح الغالبية العظمى من الشعب إذا كنا نريد فعلا لهذا البلد أن يتقدم للأمام ويتحول لدولة طبيعية تحترم كرامة كل المصريين، وتحمي حرياتهم وحقوقهم، وتقيم دولة العدل والقانون والمؤسسات التي تراقب وتحاسب.

لكن الوصول إلى هذا الهدف السياسي غير ممكن دون دور تعبوي إيجابي من المجتمع عبر قواه الحية من مؤسسات وأفراد ومنظمات ومبادرات شعبية وفي قضايا تمس المصريين مباشرة. بدون هذا الدور المجتمعي لا يمكن للأحزاب أن تعمل ويكون لها برامج ترتبط بقضايا المجتمع فعلا بدلا من الخلافات التاريخية والاستقطابات الايديولوجية، فهذا الدور يوفر الحافز والمبرر للأحزاب وهو أيضا مصدر الدعم الشعبي لها.

القضايا الأربع التي أتحدث عنها تمس كل المصريين اليوم وتؤثر على مستقبلهم القريب والبعيد، ويجب على كل مصري أن يدافع عنها دون أن يتهم بالتسييس، وبغض النظر عن موقعه سواء أكان من موظفي مؤسسات الدولة من جيش وشرطة وقضاء أو كان ينتمي إلى القطاعات المهنية الأخرى كالأطباء والمهندسين والمحامين والأساتذة والمعلمين والتجار والصناع وغيرهم.

القضية الأولى هي قضية الأرض والحفاظ عليها:

هذه قضية مصيرية بعد التفريط في جزيرتين بشكل بعيد تماما عن الشفافية، فقد أعلنت إتفاقية نقل ملكيتهما مقابل مبلغ مالي يقدر بالمليارات، ودون حتى إدراك أن هذا التصرف لا يستقيم مع الإدعاء بأنها ليست مصرية، إذ لماذا نأخذ ثمن إعادة الحقوق لأصحابها؟ ثم لماذا أعلن الإسرائيليون بعد أيام من توقيع الإتفاقية أنها نتيجة إتفاق رباعي (إسرائيلي، أمريكي، مصري، سعودي). ولم نسمع أي رد أو تعليق من أي مسؤول؟ هذه مسألة كرامة تمس كل المصريين بلا إستثناء قبل أن تكون مسألة أمن قومي.

القضية الثانية قضية النيل والموارد المالية:

لا مفر من معالجة التداعيات المترتبة على إدارة ملف المياه منذ ما قبل ثورة يناير وحتى اليوم. ليس لدينا ترف التفكير في العيش دون النيل أو تصور أنه سيكون هناك بدائل في المستقبل، كما أن المخاطر التي يمكن أن تصحب بناء السدود الأثيوبية يجب أن تدفعنا جميعا للوقوف في صف واحد لتأمين وحماية مواردنا المائية.

القضية الثالثة قضية الفشل في إدارة الاقتصاد الوطني:



هذه قضية مصيرية نظرا لتداعيات الكم الهائل من القرارات والسياسات التي اتخذت في السنوات القليلة الماضية في شأن سلسلة من المشكلات والقضايا الاقتصادية الحيوية، أهمها المشاريع العملاقة الوهمية، والقروض الضخمة وآخرها قرض المحطة النووية المقدر ب 25 مليار دولار، وسلسلة القوانين التي تحمي الفاسدين وسرقة المال العام، والصناديق الخاصة وسلسلة الممارسات والقوانين التي ترسخ دولة الوظائف الطائفية والإستثناءات، وصفقات السلاح التي تقدر بعشرات المليارات، والسياسات الاقتصادية التي تتجاهل معاناة الغالبية العظمى من المصريين من محدودي الدخل والمهمشين والفقراء المعدومين من سكان العشوائيات والقبور.

اتخذت قرارات ووقعت اتفاقيات بشأن كل هذه الأمور بشكل غير شفاف بالمرة ودون أي نقاش مجتمعي أو دراسات جدوى اقتصادية علمية. بجانب إخفاء مصير المساعدات التي حصلت عليها مصر في السنوات الأخيرة والتي تقدر بالمليارات. وهذه المساعدات والقروض تحديدا ديْن على رقاب الأجيال القادمة ويمكن لها – بمفردها – تدمير مستقبل هذه الأجيال وارتهان البلاد لعقود طويلة قادمة.

القضية الأخيرة هي انتهاكات حقوق الإنسان وتغول أجهزة الشرطة والأمن:

لقد تم منح هذه الأجهزة حرية تامة في قمع كل من لا يصطف مع النظام، حتى طال القمع والتعذيب كل فئات المجتمع وتعدى استهداف المعارضين إلى استهداف الجميع بشكل عشوائي. قضايا انتهاكات أجهزة الشرطة تضمن قضايا لن تسقط بالتقادم وستصاحبنا لعقود طويلة حتى بعد انتهاء المشكلة السياسية. قتل الآلاف، واعتقال عشرات الآلاف، والإختفاء القسري للمئات وحالات التعذيب والتنكيل هي قضايا حقوقية تمس عشرات الآلاف من الأسر وذويهم وأصدقائهم ويجب أن توضع على خارطة الاحتجاجات والاضرابات المستمرة بكل الصور الممكنة داخليا وخارجيا. وبدون هذا ستتسع الدائرة وتمس الجميع تدريجيا.

***

لن نتقدم للأمام طالما أن كل طرف ينتظر الآخر، ولن نعالج مشكلاتنا إلا بحراك مجتمعي وتعبوي على كافة المستويات وفي مواجهة كافة القضايا. وبدون هذا الدور تترك الساحة لتسويات من أعلى تقوم بها طبقات وفئات مسيطرة ولا تمثل إلا أقلية صغيرة من المصريين إلا أنها تتلاعب بمقدرات الوطن وتفرق بين قواه الحية وتعمق مشكلاته وتدمر مستقبله.

إلى متى سنظل نتجاهل حكمة “أكلنا يوم أكل الثور الأبيض”؟
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف