هناك طريقتان للتعامل مع صاحب هذا العنوان المرحب بالاعتقال والداعي له، الأولى أن تحسبه من المارقين، كاره للاستقرار، صاحب نزوع نحو العدمية، والطريقة الثانية أن تعتبره محبا لذاته، غاوي شهرة، وفي الحالتين أنصحك باجتنابه عملاً بالمثل الشائع “ابعد عن الشر وغنيله”.
من المرجح أيضاً أن يكون كاتب العنوان كارهاً للاعتقال ولكنه لا يخشاه، مؤمن بأن كلمة الحق ربما تكلفه ثمنا باهظا، ولكنه مستعد لأن يدفع فاتورتها، أن يتحمل عواقبها، طالما أن هذا يريح ضميره، ويتسق مع مبادئه وقناعاته.
عموماً، هذا النوع شبه منعدم، ولا يعيش بيننا، لذا اعتبره غير موجود، واعتبر أنني لم أذكره أو أحكي لك عنه شيئا.
لعلك ستسأل: دعك من شخص الكاتب الآن، ولكن لماذا الاعتقال في الأساس؟ ما علاقته بشخص يكتب حتي لو اختلفنا علي دوافعه؟ ألم يخلق الاعتقال للمجرمين؟ ألا تملكون يا أصحاب الكتابة حرية حركة وتفكير؟ لما تشكون التضييق وأنتم لا قيد عليكم إلا القانون؟
سيدي، النظم الاستبدادية لا تملك إلا رئة واحدة، لذا هي ضيقة الصدر، تتنفس بصعوبة، فلا تحاول أن تضايقها بأن تكتب ما يثير غضبها، ولا تقف ندا لها، بل كن محبا ودوداً، وأفرط في تدليلها، اتقاء لشرها وبطشها.
أما ما تسميه القانون، فدعني أشرح لك كيف يعمل في دولة تكافح الديمقراطية بضراوة، تراها خطراً وفوضي خلاقة.
القانون في بلادنا خلق ليكون ذراع الحاكم الطولي، يحنو بها علي أنصاره، ويقسو بها علي معارضيه.
القانون في بلادنا مصنوع من صلصال مرن، سهل تشكيله وتطويعه، علية القوم هم الوحيدون الذين يملكون أسراره ومفاتيحه، فلا تحاول أن تنازعهم حقوق ملكيتهم، وإلا صنعوا منه وحشاً جباراً ابتلعك أنت وكتاباتك.
دولة القانون التي نعيش فيها تفرق بين مواطنيها علي أساس ما يملكه كل شخص من رصيد في القوة والنفوذ، فلو نفذ رصيدك، كن مستعدا دوماً لألوان من الظلم والقهر، ولا تسألني عن العدالة التي وجد القانون ليفرضها، ولا تؤاخذني إن أخفضت صوتي قليلاً خشية أن يسمعنا القانون نتحدث عنه بسوء، فنكون أنا وأنت من الهالكين.
سيدي، القانون الذي أعرفه غارق حتي أذنيه في التمييز، فالكل أمامه ليسوا سواء، البعض يجلس فوقه متربعاً غير عابئ، والبعض الآخر يجلس تحت قدميه، خائفاً من غشامته، مذعوراً أن يطوله سيفه البتار، لذا نصيحتي لا تحتمي بالقانون، ولا تحتكم إليه إلا في حالة واحدة، وهي أن تكون مسنوداً إلي شخص مسنود.
من حقك أن تسألني ثانية: ولكنك الآن تكتب وتهاجم وتصرخ أحياناً، دون أن يمسسك بشر بأذي، أو تقع تحت سلطة القانون الغاشمة، فقل لي كيف أصدقك؟
أكتب وأنا خائف، أكتب وأنا أخشي التقييد والإهانة وفقدان الحرية، أكتب وأنا أعرف أن من سبقني إلي هذا المصير كثيرون، لم يتخيلوا يوماً أن كلماتهم مهما كانت لاذعة ستضع الأصفاد في أيديهم، فما الذي يمنع أن ألحق بهم، أن أصير رقماً جديداً في سجون نظام لا يسمع إلا صوته، ولا يقرأ إلا للقصائد التي تتغزل في حكمه.
سيدي، أنا لست المشكلة، بل هم صناع الأزمة، هم من صنعوا الخوف في قلوبنا، هم من جعلوا الاعتقال في مواجهة الكلمة، هم من اضطروني، من باب اليأس لا الجسارة، أن أضع عنواناً اتندر فيه علي الاعتقال، الذي ربما يصبح يوما رسالة علي الهواتف نصها: “أنا معارض للسلطة، ناقم عليها.. فلتعتقلني شكراً”!