البديل
جمال الجمل
بمناسبة الفشيق أحمد فريق
(0)
تحية وعيد:
مساء الخير أيتها الدولة العميقة*

(1)
لدي شواهد كثيرة تؤكد سذاجتي المفرطة.. (كنت أسميها قديما: براءة).. وكنت قد دونت هذه الاعتراف في مقال قديم (قبل 15 سنة) قلت فيه إنني “أعيش في المكان نفسه، منذ ربع قرن، سافرت الى مختلف المدن والأماكن، ولم أغادر ذاتي// أمشي في الشوارع نفسها، منذ ربع قرن، ضجت الشوارع، ولم أضج!// أحلم الأحلام نفسها، منذ ربع قرن، انكسرت الأحلام، فقبضت على جمر أحلامي// أتعرف على الأصدقاء أنفسهم.. المخادعين منذ ربع قرن، قد يغيرون أسماءهم وهيئاتهم وأساليب خداعهم، لكنني لا أغير أبداً طريقة «انخداعي»// كما لو أنني في حالة «ريبرتوار» سرمدية لمأساة عقاب آلهة الأوليمب لتوأم روحي الخفي «سيزيف»…!

(2)
في أول انتخابات رئاسية بعد ثورة يناير، كنت أتخيل أن ترشح الفشيق أحمد فريق (لاتوجد أخطاء طباعية) هو نزعة من الهذيان غير الواقعي.. غير المنطقي.. غير المقبول، وفكرت في تلك الجرأة (اللفظ المهذب لكلمة “الحماقة”) التي تجعل واحداً من فلول مبارك المكشوفين يتبجح فيترشح لانتخابات معبرة عن ثورة أطاحت بحكومته كآخر رئيس وزراء للمخلوع.! ومع استمرار الأحداث (بمآسيها وملاهيها) تأكدت النتيجة التي تكررت كثيرا من قبل: أنت ساذج يا جيمي.. أنت رومانتيكي.. حالم.. تنقصك الخبرة الواقعية والمعلومات الخفية التي تحتكرها المنظومة البيروقراطية، فها هو الفشيق ينافس بقوة، يجمع ملايين الأصوات، ويدخل الإعادة وهو يذاكر صيغة اليمين الرئاسي ليلا، ليلقيه أمام الكهنة في الصباح، لكن الدولة العميقة “قلابة أوجه”، لم تسمح للفشيق أن يؤدي اليمين، وجعلت منه أمثولة للمعتمر الأزلي.. صاحب الرقم القياسي لأطول فترة عمرة سايكوسياسية في تاريخ الأمة الإسلامية، ولا تزال الأسباب حبيسة في دهاليز القصور يسأل عنها الفشيق متعجبا حتى اليوم.؟!

(3)
في تلك الأيام أبديت إعجابي الشديد بأداء الدولة العميقة، لقد كنت منتشياً بخمر الثورة، حتى صدمتني نتائج الانتخابات بوقائع أرضية واقعية قارحة، يصعب أن تغيرها هتافات الثائرين في الميادين، فالتغيير: قوة، وتنظيم، وتمويل، بينما الثورة لا تملك إلا الحلم، والأمل، والإيمان البسيط بحق الناس في حياة أفضل من تلك الأيام الكالحة التي نعيشها.. فهل تقدر الأحلام على زحزحة جبال البيروقراطية الراسخة، ومواجهة شبكات المصالح المتوحشة، وإقناع آلة القوة بالانحياز للعقل وليس للعضلات؟!
أظنها لم ولن تقدر بمفردها أبداً… الثورة ينقصها الكثير إذن.

(4)
عادت الدولة العميقة لتؤكد وجودها مجدداً بعد أن أصدر الرئيس الإخواني محمد مرسي إعلانه الدستوري، وبسبب هذا الفرمان الانتحاري استطاعت “الدولة العميقة” حشد الملايين (وأنا منهم) تحت شعار “حماية الدولة”.. “حماية الهوية”.. كنت أعمل حينها في مدينة الانتاج الإعلامي، وأتعرض يوميا لمظهر من مظاهر تفكك الدولة، يتمثل أمام عيني في الحصار الميليشياوي الذي فرضته جماعة “حازمون”، بحيث تبدى لي مظهر جديد للعنف الأهلي، وكأن مصر بكل تاريخها تقلد واحدة من الدول البدائية الناشئة، ولم يكن حصار المحكمة الدستورية، ولا حرق مقر حزب وجريدة الوفد، ولا سحل المتظاهرين أمام القصر الرئاسي إلا مظاهر ساطعة لسقوط فكرة الاستقرار، وتحلل مؤسسات الدولة، ومعهما القيمة المعنوية والسياسية للدستور والقوانين، بل أن مظاهر السقوط كانت بدائية وهمجية، لم نعشها بهذا الشكل أبداً في عمرنا الذي يشكل حكم مبارك العفن، المساحة الأكبر فيه.

(5)
ربما لهذا أصابتنا متلازمة الحنين إلى الدولة، باعتباره حنين إلى الاستقرار، ورغبة في استعادة سريان الدستور والقوانين، ومظاهر التحضر التي داستها عجول أبو اسماعيل أمام البوابة الرابعة للميديا سيتي، كما داستها ميليشيات العنف في حصار الدستورية، وكتائب “قوة – عزيمة – إيمان” في موقعة “جبنة نستو يا معفنين”، وبعد شهور طويلة تنفسنا جرعة من الأكسجين، وهللنا لمظهر عودة الدولة في 3 يوليو، فالمنصة ليست أحادية، عادت ألوان الطيف الشعبي والسياسي، حيث حضرت التيارات المدنية (البرادعي) والتيارات الدينية ذات البعد السياسي (الأزهر – الكنيسة – حزب النور) ولم يتجاهل المخرج أن يضع أيقونة “تمرد” في المشهد كرمز يمثل عموم الشباب، إلى جانب ممثلي المؤسسات التقليدية في الدولة من جيش وشرطة وقضاء وإعلام. لكن لم تمر عدة أشهر حتى عاد اللون الواحد، ولم تحتفظ “العميقة” بألوان وتعددية المشهد الفرايحي لثورة يونيو، لقد تحول إلى صورة مظهرية بلا أصل واقعي، وعادت المفارقة تطل برأسها من جديد بين المظهر والجوهر.. بين المبنى والمعنى .. بين “الدولة الوعاء” التي يجب أن تحتوي كل الأطياف بتوازن واقعي، وبين “الدولة العميقة” التي تحكم من وراء هذا المظهر الشكلي، الذي يسقط في لحظة واحدة، إذا تعارض مع مصالح ذلك الإخطبوط الخفي الذي يسيطر على كل شئ دون أن يحيط به أحد، أو حتى يدرك حجمه وتوجهاته وأدواته.

(6)
في الشهور الأخيرة سيطرت “الدولة العميقة” على تفكيري بقوة، إنها تبدو مثل إله قادر، لكنه “إله شرير” يمارس نزواته بنوع ساحق من السحر الأسود، فقد تابعت وتابعتم معي ردود الأفعال الغاضبة ضد تسليم جزيرتي تيران وصنافير للسعودية، وكان من بين الرافضين مسؤولون سابقون، وسياسيون وباحثون وإعلاميون، لكنني رأيت كيف تراجع هؤلاء واحدا وراء الآخر، بقوة سحرية وسرية غير مبررة!!، وسألت نفسي: ماهي المعلومات أو التليفونات التي دفعت هؤلاء الرافضين لتغيير رأيهم بين يوم وليلة؟.. ما هي قدرة الدولة العميقة في التأثير بهذا الشكل العجيب على رأي هؤلاء الكبار، وعلى تفكيرهم؟!

(7)
لم أكن قد وصلت إلى إجابة بشأن المتحولين في قضية تيران، حتى اندلعت أزمة نقابة الصحفيين مع وزارة الداخلية، فرايت تطورا مذهلا في متلازمة التراجع الاستلابي، الذي بدأ بصحيفة كلاسيكية كبيرة مثل “الأهرام” تنقلب على افتتاحيتها الرسمية بعد يوم واحد، وتمضي في اتجاه معاكس تسميه “تصحيح المسار”، وأنا هنا لست بصدد مناقشة أزمة النقابة، ولا يهمني التوقف عند المشاكل بصيغتها الفئوية، لكنني كنت ومازلت مهتماً بالبعد السياسي والثقافي والاجتماعي لأي أزمة، ولطريقة معالجتها، وقد كتبت في هذه الأزمة مبكراً، داعياً إلى حل سياسي يتجاوز ثنائية النقابة والوزارة، لأن المنطق يقول ان السلطات قد تتصارع، وهذا أمر طبيعي في النظام الديموقراطي، لكن هناك حَكَم للفصل بين السلطات، والحفاظ على الصراع تحت قوانين اللعبة، وليس تأجيج الأطراف ضد بعدها، لكنني رأيت مباراة مفتوحة يغيب عنها الحَكَم، ورأيت ممارسات للضغط والترهيب، والإخضاع، ولم أجد أثرا لروح الدولة المتمثل في دستورها وقوانينها، ولم أجد أثراً لدورها المتمثل في إدارة شؤون الحياة والحفاظ على مصالح المجتمع بكل فئاته وتوازناته، بالعكس ساهمت “الدولة المقيتة” في تحويل الوطن إلى ساحة تناحر، ارتفعت فيها العصا الغليظة لأجهزتها التي تحولت إلى “مافيا شرعية” تدافع عن مصالحها الخاصة بمزيد من القهر والتوحش والفساد، وبين الحين والآخر تنتفض علينا من تحت الأشلاء، وتستعرض عضلاتها الداخلية، لتثبت لنفسها، وتؤكد لنا أنها قادرة، وأنها عميقة.

(8)
لذلك أعترف مرة أخرى أنني لا أزال ساذجاً، ولا أزال أحلم بدولة حقيقية غير تلك “الدولة المقيتة” التي تجيد اللعب في الظلام، وتحقق الكثير من المعجزات المزعجات، بينما مثلها مثل “دراكولا” لا تستطيع أن تعيش في النور تحت الشمس، فتهدد وجودي وعقلي، وتدفعني إلى الخوف والرعب، بدلا من الفخر والانتماء.
……………………………………………………………………………………………………………………..
* لهذا المقال قصة شيقة، سأرويها قريبا ضمن فصول كتاب “حواديت العباسيين”.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف