هكذا عبرت أبواق نظام مبارك عن عدم إمكان تحقق مشاهد الثورة التونسية فى مصر، التى بدت مختلفة حقيقة فى سياقات متعددة سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، ورغم انتقال رياح الثورة إلى مصر فى مشاهد يناير 2011، إلا أن المقولة تبقى صحيحة، عندما يسأل البعض اليوم عن إمكان أن يستفيد إخوان مصر من تجربة حركة النهضة التونسية، التي فصلت بين الدعوى والسياسي، وحولت الحركة إلى حزب سياسي مدني يبتعد عن خلط الدين بالسياسة.
منذ البداية، تبدو التجربتان مختلفتان، فبرغم أن حركة النهضة يعدها البعض فرعا للإخوان المسلمين عضوا فيما يسمى بالتنظيم الدولي، لم تعرف النهضة نفسها بهذا الوصف أبدا، بل عبر الغنوشي بوضوح عن روافد حركته بالقول، إنها نتاج امتزاج مكونات منها الرافد الإخواني الذي سماه السلفية القادمة من المشرق، إضافة إلى التدين التونسى الذى بدوره مزيج من العقائد الأشعرية، مع الرؤية المقاصدية، والتصوف على طريقة الجنيد.
تندهش حين تعرف أن الغنوشي قال فى حوار منشور منذ عشرين عاما وقبل أن يكون مطروحا فى وعى أحد أنهم سيصلون للحكم، أنه على الإسلاميين أن لايحتكروا الحكم حتى لو وصلوا آليه بأغلبية الأصوات، حيث يشخص واقع العرب بأنه نتيجة سياقات معقدة لن تفلح الديمقراطية فى علاج واقعه بمعنى أن الأغلبية تحكم والأقلية تعارض؛ لأن هذا يكون فى الأوضاع المستقرة التداول على السلطة فى شكله الطبيعى، يتم فى أرضية من وفاق هو داخل عائلة ثقافية داخل مشروع مجتمعي وقع الاتفاق عليه، هنا يمكن أن تجرى هذه العملية إشارة بالغة الحكمة فى تشخيص واقع مجتمعاتنا، تفسر الكثير من سلوك الرجل السياسي، الذي تراجع عن الحكم حين أقصى عنه بخشونة لافتة، فى سياق اتساقه مع أفكاره وإيمانه بأهمية التوافق والسعي لتحقيقه، قبل السعي لإحراز الحكم عبر أغلبية، حيث يرى أن مجتمعاتنا لازالت تبحث عن التوافق الذى لايمر إلا عبر مشروع مجتمعي يؤدي إلى تحقق الديمقراطية، ثم يؤكد فى إشارة لاتخلو من الإلهام وحسن التقدير وقراءة الواقع بعمق “لايمكن التحول من حكم القبيلة وحكم العائلة والحزب الواحد والعصابة والجنرالات إلى حكم الشعب، إلا عبر وفاق وطني تتوزع فيه الحصص ليس بحسب الأحجام والأعداد وإنما بحسب ضرورات الوفاق، فقد يقبل الأكثر أصواتا أن يتنازل للأقل أصواتا، المهم أن تقاد أمتنا فى مثل هذه الأوضاع بائتلافات وطنية تمثل كل التيارات وكل الأحزاب، لأن أى تيار يشعر بالإقصاء حتى يرتمي فى أحضان العدو “ثم يوضح مراده أكثر قائلا” عندما تحكم الأغلبية الإسلامية، معنى ذلك بالنسبة للأقلية اليسارية والشيوعية والقومية، تعتبره عملية إبادة وإعدام هذا الأمر سيدفعها إلى الارتماء فى أحضان العسكر، إلى الارتماء حتى فى أحضان الصهاينة والقوى الأجنبية “.
هل كان الغنوشى يقرأ الغيب منذ عقدين؟ أم أن اتصاله بالواقع مقارنة بانفصال غيره عنه وقدرته على قراءة عالمه ومحيطه مكنه من ذلك.
لايبدو الغنوشي وحده مختلفا، تونس كلها مختلفة بورقيبة الذي ينصفه الغنوشي ممتدحا بعض إنجازاته فى تحرير المرأة مثلا، واهتمامه بالتعليم الذى كان يستهلك وحده فى ميزانية الدولة على عهده 28%، مما أنتج عقلنة واسعة يخشى البعض تسميتها بعلمنة، لا تعادي الدين تختلف عن لائكية فرنسية ظلت قوى اجتماعية متوجسة من تحققها فى تونس، قبل أن تطمئن وتتخلى عن هذا المزج الضار بين الدين والسياسة.
تونس تبدو مختلفة فى وضعية جيشها مقارنة بغيرها وبمكانه فى العملية السياسية ونضج الفرقاء السياسيين مقارنة بغيرهم، بنسب التعليم والوعي بتنظيمات المجتمع المدني كاتحاد الشغل والنقابات الموحدة واتحادات الطلبة، بكل بنيان المجتمع المدني القوى وحركة المرأة الأقوى من نظيراتها فى عالمنا العربي، والأهم تغليب الفرقاء السياسيين لروح التوافق والشراكة وقدرتهم على التحاكم للديمقراطية والقبول بمخرجاتها، يبدو أخيرا الموقع وضعف الموارد من حظ تونس، بينما يبدو نكد الجغرافيا عبقرية الزمان والمكان ينتج أثاره لدينا، ولأن مصر ليست تونس لن يحذو إخوان مصر حذو النهضة، التي لم تكن ولن تكون كإخوان المشرق المنعوتون فى وعي الغنوشي بالسلفية الإخوانية، التي تجاوزها الرجل وحركته وتحول فروق التوقيت بين الإخوان فى مصرفى أن يتجاوزوها فى مصر فجواتنا أعمق كثيرا .