علاء خالد
يوم في حياة عاطف - (دمشير – نجع عرب جهينة)
فوتوغرافيا: سلوى رشاد
قابلت عاطف الجهيني على المقهى الذى يعمل به أمام محطة القطار فى إلمنيا. شاب فى الثانية والثلاثين نشيط ويتنقل بسرعة وخفة بين الزبائن ليحاسبهم، وفى يده اليسرى رزمة من العملات الورقية من فئات مختلفة، مضمومة فى يده، تتغيرثخانتها باستمرار، ويقبض عليها بقوة خوفا من أن تفلت منه. تسلم العمل فى هذا المقهى منذ عام 2005، فى البداية عمل كجرسون عادي يقوم على خدمة الزبائن وتلبية طلباتهم، إلى أن ترقى، وأصبح " محاسبا" للمقهى.
يختار دائما المكان الاستراتيجي الذى يتيح له أن يرى زاويتي المقهى. لاتفارقه الابتسامة طوال فترة عمله وهو مالفت نظرى إليه، هذه الابتسامة وهذا الأدب الجم وقوة التحمل. كان جلوسنا على المقهى عادة يومية، فهو المكان الذى يشبه نافذة على الحياة اليومية التى تجرى وقائعها فى ميدان المحطة فى الصباح.
عاطف يقف على اليسار
فى المرة الأولى اقترب منا وأخذ مطالبنا، بالرغم من أنها ليست وظيفته، ولكنه كان يريد التعرف علينا. وفى نهاية فترة جلوسنا ومحاسبته لنا ألقى لنا بعرضه السخي، بأن يصحبنا إلى قريته التى تبعد حوالى نصف ساعة من إلمنيا لنرى حياة الريف على الطبيعة. كان وقتنا محددا جدا، وكانت أمامنا عدة زيارات ومزارات يجب أن نوفيها، فأعطيت له ميعادا بعد يومين فى الرابعة ظهرا، بعد عودتنا من زيارة آثار تونا الجبل.
قبل الموعد بدقائق كنا واقفين أمام المقهى، لمحت رجفة فى وجهه، كأنه لم يتوقع أن نوفي بوعدنا له. تركت له الخيط أن يعتذر لو هناك عمل لديه، فأكد أنه مستعد. انتظرنا معه حوالي نصف ساعة حتى أنهى الوردية وسلم حسابات المقهى لزميله. خلال فترة انتظارنا له كان يأتى بين حين وآخر ويرسم لنا خطة اليوم، بأننا سنجلس وسط الحقول، ونشم هواء من نوع آخر. ربما كان يخشى أن نُحبط، أو أن تفشل دعوته. حتى هذه اللحظة لم أكن متحمسا لعرضه وشكل تسويقه له، وكنت أريد أن يحدث أى شىء ليعطل هذه الرحلة.
عاطف مع العائلة
تحركنا سويا، عبرنا الجسر ناحية الطريق الزراعي، ركبنا عربة نصف نقل فى الخلف، وهى إحدى الوسائل الآساسية للانتقال فى الريف والمدينة. ربما كان يتوقع رفضنا لركوب هذه العربة فعرض علينا قبل التحرك أن نذهب لقريته بعربة خاصة لصديق له، ولكنى رفضت بأننا نريد أن نتتبع مسار الحياة اليومية للناس. جلست سلوى بجوار مجموعة من السيدات والفتيات، كلهن يتحلين بلياقة بدينة عالية باختلاف السن، تتيح لهن بأن يصعدن العربة ويقفزن منها. تتقارب مسئوليات ومهام المرأة والرجل فى الريف، ومتاعبهما أيضا.
خلال الطريق كان الطرف الناتىء من باب المقطورة الخلفية يقف عليه أربعة شبان يحملون كتبا، ربما كانوا فى طريقهم للعودة من أحد الدروس الخصوصية للثانوية العامة من إحدى القرى التى تقع على الطريق. ناولوا الكتب لأحد الجالسين على الطرف، وهى ضريبة هذا المكان، ليتفرغوا للإمساك بهيكل المقطورة جيدا. يخبط أحدهم على جسم المقطورة بقوة، وهى العلامة التى يلحظها السائق فيتوقف عندها. حركتا صعود ونزول مستمرتين طوال الطريق.
عاطف مع مروة ابنته الصغرى
وصلنا لجسر صغير يتفرع عن الطريق العام، نزلنا عنده، ومن هناك أخذنا طريقنا لبيته سيرا على الأقدام. كانت الساعة قد جاوزت الخامسة بقليل، وبدأت الشمس تغيب قليلا وينكشف الريف عن سلام ودعة يودع بها اليوم. سمعنا "زمارة" مخنوقة من خلفنا. توقف أحد الرجال ليعرض توصيلنا بمقطورة صغيرة ملحومة فى موتوسيكل وهى بديل "العربة بحمار" القديمة، وتقوم بوظيفتها الآن فى الريف. ركبنا فى الخلف بجوار ابنه الصغير.
أنزلنا الرجل عند نقطة قبل بيت عاطف بمسافة كيلو متر تقريبا. سرنا باقى المسافة فى طريق مترب صغير. مررنا على إحدى وحدات الرى المبنية بالطوب الأحمر القديم الذى بنته الحكومة الإنجليزية فترة الاحتلال والخاصة بنقاط التحكم فى المياه. ربما كانت هذه الأماكن أولى البناءات الحديثة فى الريف، هى ومحطات السكك الحديدية. تحمل سمات ثقافة مختلفة منظمة ولها قوة فى التصميم الهندسى مختلف تماما عن بيوت الريف الطينية وبساطتها.
عند هذه النقطة قابلنا "ملاك"، الذى عرَّفنا عليه عاطف، أحد فلاحي القرية. عاطف كان يسير بثقة قائد وبصدر منتفخ. توقفنا أمام خُص "ملاك" وسط الخراف والجواميس ومن بعيد يظهر فلاحون يحصدون القمح أو البرسيم، ويرسلون تلويحات للغرباء الذين يرونهم من بعيد، وصدى أصوات ربما تكون ترحيبا أو استفسارا أو دعوة للدخول لهذا البيت المفتوح الذى يزرعونه.
أكملنا مسيرتنا وبدأ عاطف يخب الخطى فقد اقتربنا من منطقة نفوذه. شرح لى فى الطريق بأنه ينتمى لقبيلة من العرب المهاجرين من جهينة فى المنيا وعائلته هى المسئولة عن حماية هذه المنطقة. بدأت بشائر الأطفال والنظرات المتوجسة والمتسائلة والمرحبة تظهر عن بعد. جلسنا تحت إحدى أشجار الجميز التى ترجع فى قدمها لقدم الريف المصري، فى انتظار عودة عاطف من البيت بحصيرة بلاستيكية لنجلس جميعنا داخل الحقل الذى يملكها هو وأخوته.
على الناحية الأخرى التى تفصلنا عنها قناية صغيرة كانت هناك مجموعة من البيوت الطينية والتى تتراص أمامها مجموعة من الدكك الخشبية وصف من الرجال والنساء يتسقبلون نسائم الغروب فى هذا اليوم شديد الحرارة.
بمجرد دخولنا الحزام الأخصر لحقل البرسيم التابع لحمدي الأخ التالي لعاطف، حتى خرجت خيوط من الأطفال والأخوة من داخل الحقل ومن البيوت على الضفة الأخرى ليتجمعوا حولنا، لايقل عن خمسة عشر طفلا، متوزعين على الأخوة الاربع لعاطف. بنات فى سن المراهقة يسلمن فى خجل، ولكنه خجل فضولى، كن يتبادلن فضولنا بفضول مواجه. تتحرك كتلة الأطفال لتقترب من بؤرة العدسة، ليخلدوا حضورهم، يتداخلون فى صخب يدفعون بعضهم البعض، ليحتل أحدهم المقدمة، مثل كرات البلياردو التى تتجمع داخل شكل هرمى.
جلسنا وسط العائلة بكل امتداداتها وأجيالها، وتحدث معى أخوه الأكبر حمدي عن الفلاح والبلد والحياة. حديثا طويلا وعاطفيا، بينما عاطف لايتدخل بل ينشِّط ريق أخيه لكى يتكلم أكثر حتى يرضى شهيتنا للمعرفة ولايخيب أملنا فى الزيارة. شربنا الشاى على فحم أحد الأشجار. الغروب يقترب ويزداد الريف سحرا، ليس السحر المفتعل ولكن سحر من اختار أن يتمايز بالبساطة، وليس بالتكلف، لذا بساطة الريف متمثلة باستمرارالخضرة والماء والتراب والناس، جميعهم يؤدون هذا المعادلة البسيطة.
رأيت عاطف بشكل آخر، كشخص مسئول وله أحلام و "عزوة". هنا المكان الحقيقى لوجوده لذا كان يراهن عليه بقوة. سلمت على عشرات الأيادي ومنحت عشرات العناوين الالكترونية لشباب العائلة المترددين على الفيسبوك. أشعلوا النار وشربنا الشاى على الفحم، وأعده "سيد"، أكبر الأخوة، الهادىء المتصوف الذى ينظر داخله كثيرا وله حكمة أبو قردان. تم رفع الآذان فى المسجد الذى تبرع بأرضه حمدي الآخ التالي لعاطف، قلت لحمدى مداعبا "سيكون لك قصر فى الجنة". ابتسم وربما كان يرى الجنة هى هذه الأرض التى تقع أمام الجامع ويقوم بزراعتها، ويود ولو يُبعث فيها مباشرة بعد الموت.
فى اليوم التالى قبل سفرنا لأسيوط مررنا على عاطف فى المقهى لنسلم عليه. تبادلنا بعض العبارات والذكريات عن اليوم الفائت. أثناء مرور عربة الميكروباص فى طريقها لأسيوط شاءت الظروف أن نمر مرة أخرى أمام المقهى، كان عاطف يؤدى عمله بأناقة وبطاقة أكبر بكثير من مسئوليات هذا العمل البسيط الذى يؤديه.