محمد حبيب
«وكلٌ مُيسَّر لما خُلق له»
(١) تكمن أهمية سلسلة المقالات التى نتناول فيها إلقاء الضوء على شخصية الدكتور محمود عزت، أحد نواب المرشد العام للإخوان، أن الرجل أصبح الآن هو المتحكم فى مفاصل الجماعة.. ولأن الدكتور «عزت» لا يصلح بطبيعته أن يكون الرجل الأول فى أى تشكيل أو تنظيم، فإن وجوده فى الموقع الحالى، أى القائم بعمل المرشد، سوف يعجل بنهاية التنظيم الدولى للإخوان من ناحية، كما سوف يؤدى إلى مزيد من تفتيت وتمزيق تنظيم الإخوان فى مصر من ناحية أخرى.. إن القيادة موهبة، وقدرة، وكفاءة، كما قال يوسف (عليه السلام): «قَالَ اجْعَلْنِى عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّى حَفِيظٌ عَلِيمٌ» (يوسف: ٥٥)، وكما قالت ابنة شعيب (عليه السلام): «يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِىُّ الْأَمِينُ» (القصص: ٢٦)، وكما قال الحبيب محمد (صلى الله عليه وسلم): «وكلٌ مُيَسَّر لما خُلق له».. إن من أهم ما يميز القيادة الناجحة، هو عدم استغراقها فى التفاصيل الصغيرة، التى تؤدى بالقطع إلى نسيان جوهر الموضوع.. إذ من المفترض أن هذه التفاصيل لها رجالها الذين يتولون أمرها، حتى تتفرغ القيادة للأمور الرئيسية، إلا أن الحرص من جانب بعض القيادات على الدخول فى تلك التفاصيل -غير المهمة- يلعب دوراً خطيراً فى إفقاد من يعملون معها الثقة فى أنفسهم من ناحية، وعدم تمكينهم من فرص الابتكار والابتداع من ناحية أخرى.
(٢) الدكتور «عزت» من هذا النوع.. فقد بلغ اهتمامه وولعه بالتفاصيل أنه -مثلاً- لم يكن لديه مانع أن يركب سيارته ويذهب إلى أى من المحافظات البعيدة عن القاهرة، لكى يبلغ هذا المسئول أو ذاك خبراً أو معلومة صغيرة غير ذات قيمة، ربما يستطيع غيره أن يؤديها بشكل أفضل منه.. أيضاً، على الرغم من أنه كان هناك مسئول مباشر عن الموظفين والعاملين بمقر المركز العام لمكتب الإرشاد بالروضة، إلا أن الدكتور «عزت» كان يشغل نفسه بالتدخل فى عمل هذا المسئول، ولا يجد حرجاً أن يقوم بنقل عامل من مقر المركز العام إلى مقر نواب البرلمان بجسر السويس بالقاهرة، ثم يظل يتابع بنفسه هذا العامل بشكل ممل فى مكانه الجديد.. وكل هذا وغيره كان ينسيه موضوعات أخرى مهمة.. ففى يوم من الأيام شكا إلى الدكتور سناء أبوزيد (رحمه الله)، مسئول أحد الأقسام الفنية بالجماعة، من تصرف الدكتور «عزت» معه.. فقد كلفه الأخير بإعداد تقرير عن القسم لعرضه على مكتب الإرشاد.. وكان التقرير عادة يحتاج إلى تجميع دقيق لكثير من البيانات والمعلومات، وهو ما كان يتطلب وقتاً وجهداً.. ولطبيعة «سرية التنظيم»، كان الدكتور «سناء» يقوم بالتخلص من البيانات والمعلومات ومن التقرير بعد الانتهاء منه مباشرة خوفاً من أن يقع فى يد جهاز مباحث أمن الدولة.. يقول الدكتور «سناء» إن الدكتور «عزت» جاءه بعد تسلمه التقرير بيومين ليطلب منه نسخة أخرى لأن النسخة السابقة التى كانت لديه قد فقدت منه وهو لا يدرى أين وضعها(!) واضطر الرجل أن يكرر ما سبق عمله، وأن يبذل من الجهد والوقت أضعاف ما بذل.. ثم جاءه مرة ثانية ليستأذنه فى إمداده بنسخة ثالثة، لأن الثانية قد فقدت أيضاً(!) عندما جاءنى الدكتور «سناء» ليشكو إلىّ، كانت هى المرة السادسة التى يطلب منه الدكتور «عزت» أن يمده بتقرير آخر(!!) كذلك، إذا كلف من المكتب بتنظيم تظاهرة فى القاهرة، قام باستدعاء مساعديه وأعطاهم تعليمات؛ أولاً: بالأعداد التى يجب أن تشارك فى التظاهرة من المحافظات القريبة والبعيدة، ثانياً: أسماء المسئولين الذين يتصلون بهم، ثالثاً: أماكن التجمع الأساسى والاحتياطى، رابعاً: الشعارات التى يجب أن ترفع، والهتافات التى تقال، والعبارات التى يجب أن تكتب، وخامساً: الأماكن التى توضع بها البوسترات، مع التأكيد على مساحتها وألوانها.. إلخ(!).
(٣) القضية الثانية هى أن الدكتور «عزت» كان يعتبر نفسه الجماعة.. والحقيقة أن الإنسان -حتى لو كان فرداً عادياً- إذا اعتبر نفسه مسئولاً عن الجماعة، هو شعور نبيل.. هذا الشعور يجعل الإنسان أكثر حرصاً على الجماعة، وأنه يقف على ثغرة يخشى أن تؤتى من قبلها، وهو أمر ضرورى وحيوى لقوة الجماعة وتماسكها واستمرارها.. لكن يجب أن يتوازن هذا الشعور مع شعور آخر هو أن هناك آخرين ليسوا أقل حرصاً، بل ربما يكونون أكثر حرصاً منه على الجماعة.. وإذا كان الإنسان مسئولاً عن عمل معين داخل الجماعة، فإن هذا العمل له دائرته الخاصة به، وعليه ألا يتجاوز حدود هذه الدائرة، وأن يتوقف عند خطوط أو مستويات أو نقاط تماسها مع الدوائر الأخرى.. والأصل فى مثل هذه الحالة أن يكون هناك تنسيق مع بقية الدوائر، ولا بأس من توجيه النصح لمسئولى تلك الدوائر، بغض النظر إن كانت هناك أخطاء أم لا.. فى كثير من الأحيان لم يكن شعور الدكتور «عزت» متوازناً فى هذه القضية أو تلك.. بل كان يتجاوز حدوداً كثيرة تمثلت فى تغوله المستمر والدائم على سلطات وصلاحيات الآخرين، وهو ما كان يسبب ارتباكاً وإرباكاً لمؤسسات الجماعة كلها.. فى الأشهر الأخيرة من حياة الأستاذ مصطفى مشهور (رحمه الله)، توسع الدكتور «عزت» فى اختصاصاته، وبدأ يمارس هوايته فى التدخل والتغول على اختصاصات وصلاحيات الآخرين.. وفى عهد الأستاذ المأمون الهضيبى (رحمه الله)، تضاءلت صلاحيات الدكتور «عزت» إلى حدها الطبيعى، وذلك بسبب الشخصية القوية لـ«الهضيبى» وعدم سماحه لأى إنسان بأن يتجاوز حدوده.. وعندما تولى الأستاذ مهدى عاكف منصب المرشد، بعد وفاة «الهضيبى»، عاد الدكتور «عزت» من جديد، لكن ليحتل هذه المرة صلاحيات واسعة وغير محدودة، حيث فرض هيمنته وسيطرته الكاملة على كافة الأمور.. وقد مكنه من ذلك -للأسف- الأستاذ «عاكف» الذى ترك له الحبل على الغارب، إذ لم تكن له قدرة ولا طاقة ولا كفاءة صهره وخال أولاده الدكتور «عزت»، من حيث المثابرة والدأب والمتابعة والقدرة على التواصل مع كل مؤسسات ومفاصل الجماعة.. وقد نبهت «عاكف» إلى ذلك مراراً، لكنه لم يكن يصغى إلى تحذيراتى، وصدق فيه قول الشاعر: قد أسمعت إذ ناديت حياً.. ولكن لا حياة لمن تنادى.. للأسف، لم يكن الرجل يهتم بشىء سوى حضور المناسبات الاجتماعية العامة، من جنازات وأفراح.. ربما كان يحضر بعض المؤتمرات ليلقى كلمة، أو يظهر فى القنوات الفضائية، أو يعطى حواراً لبعض الصحف، لكنه كان يعتمد فى معلوماته عن الجماعة وما يدور فيها على الدكتور «عزت»، وهو ما جعل الأخير يشعر أنه هو الجماعة، والجماعة هو(!).