فَهم الذات أساس حل مشكلات الفرد، وفَهم الواقع أساس حل مشكلات المجتمع. أقول ذلك بمناسبة بعض الأفكار التى أثارها قراء أعزاء حول مقال «فيها حاجة عشوائية». وقد ذهبت فيه إلى أن «الحاجة الحلوة» التى تمتاز بها مصر ترتبط بفكرة «العشوائية»، واستشهدت فى هذا السياق بأن كثيرين ممن يعيشون فى الأحياء النظامية المخططة يقتلهم الحنين إلى أصولهم العشوائية فى الأحياء الشعبية. ودعنى أزيدك من الشعر بيتاً فأقول إن الكثيرين ممن يعيشون فى الأحياء الراقية النظامية يعيشون داخل بيوتهم حياة عشوائية قد تكون أشد خطورة، وتجد آثارها واضحة فى أساليب الإنفاق، وتربية الأبناء، والعلاقة ما بين أفراد الأسرة، وعادات الطعام والشراب والملبس، الأمر الذى يؤكد لك أن العشوائية حالة مرتبطة بـ«إنسان»، وليست مجرد حالة معبرة عن «مكان»!.
مؤكد أنك تستوعب أننى لا أقول ما أقول فى مديح العشوائية أو الاحتفاء بها، لكننى أتناول حالة إنسانية فريدة ترتبط بثقافة المصريين، لا بد أن نفهم أبعادها، إذا كنا ننوى مواجهتها!. العاقل من يفهم أسباب المرض حتى يتمكن من التماس العلاج الصحيح له. يستوى فى ذلك الفرد مع المجتمع. ولو أننا بدأنا بالحديث عن الفرد فستجد أن بعض الأفراد يعيشون حياتهم دون أن يتوقفوا لحظة واحدة لتأمل سيرتهم ورحلتهم فيها، ومثل هؤلاء كثيراً ما يدخلون الحياة ويخرجون منها دون أن يعيشوا لحظة فهم لذواتهم.
هل شاهدت مسلسل «حديث الصباح والمساء»؟. إن كان قد حدث فأرجو أن تتذكر معى شخصية «داود المصرى» التى جسدها المبدع «خالد النبوى». هذه الشخصية لمست الكثيرين، وسر ذلك -من وجهة نظرى- أنها عبرت عن حالة ناجحة لعلاج مرض «العشوائية». خطف جنود محمد على «داود» وهو طفل صغير، وألحقوه بمدرسة داخلية لتعليم الأطفال -فى إطار المشروع النهضوى للوالى- ثم أُرسل فى بعثة إلى فرنسا، عاد منها طبيباً، ثم عاد إلى أحضان أسرته، فكر فى الزواج من بنات إحدى العائلات، فرفضته رفضاً مهيناً، ولم يشفع له تفوقه أو نبوغه كطبيب، بسبب أصله العائلى البسيط، ظل «أعزب» حتى قبلت إحدى العائلات المحترمة تزويجه ابنتها، فعقد عقدة النكاح على «سنية الوراق»، وساعدته على الحصول على الباشاوية. فجأة أحب «داود» جارية سوداء كانت تخدم فى «السرايا» التى يعيش فيها، لاحظت «سنية» الأمر، فعايرته بأصله الوضيع الذى حنَّ إليه، فما كان منه إلا أن طلقها وتزوج الجارية «جوهر»، ووقف وقفة مع نفسه قرر بعدها العودة للعيش فى بيته القديم بسوق الزلط، وبدأ ينعم بدفء العيش وسط البسطاء فى مسقط رأسه.
داود المصرى نموذج له أشباه عدة فى مشاهير غادروا الحياة، وآخرين حولنا ما زالوا يسعون فيها، فالتفكير العشوائى لأبناء الذوات دفعهم إلى رفضه رغم اجتهاده، وعندما وجد من بينهم من يقبل نسبه، لم يطق فكرة الحياة المصنوعة التى كان يعيش فيها، فحنَّ إلى الجارية «جوهر» التى تشبه أمه، وزهد فى بنت الأكابر، وكانت مواجهة «سنية» له بأصله الوضيع جملة كاشفة، إذ ثبت له بها أنه كان يعيش حياة مصنوعة، وأن «سنية» لم تكن سوى «عشوائية» عتيدة تنتظر الفرصة. وعند هذه اللحظة قرر كل عشوائى أن ينام على «الجنب اللى يريحه»!.