الأهرام
اسامة الازهرى
المؤسسات الدينية: الواقع والمأمول (1)
المهمة الأولى للمؤسسات الدينية هى صناعة شخصيات على مستوى رفيع، فى العلم والثقافة والوعي، واللياقة النفسية والاجتماعية، والمعرفة العميقة بتضاريس الوحى الشريف ومقاصده النبيلة، والعلوم الشرعية الخادمة لذلك الوحي، مع الإلمام بالواقع بكل عوالمه المتشابكة فى الأشخاص والأفكار والأحداث والأشياء، وبكل تعقيداته الفلسفية والاجتماعية والقانونية، بحيث تحشد المؤسسات الدينية لأجل ذلك عددا من الخبرات والمهارات والمعارف، وتصقل مهارات أولئك الخريجين بجرعات تم اختيارها بدقة متناهية من فنون الإلقاء والتواصل، إنها عملية صناعة دقيقة، تخرج لنا منتجا عالى الجودة، يتمثل فى ذلك العالم الشرعى المتبحر فى علوم الشريعة، والواسع الثقافة، والراجح العقل، والنافذ البصيرة، والعميق الخبرة بالعالم والواقع والمجتمع، ولأجل صناعة هذا الشخص لابد من عملية علمية جادة، مبدعة، تتوافر لها كل المرافق والخدمات، وتفجر فى عقول الطلاب أقصى درجات النبوغ والعبقرية والموهبة والتحليل والاستنتاج والفهم، ومهارات الوصول إلى المعلومات الصحيحة فى كل مسألة أو بحث يعالجه، ومهارات تحليل تلك المعلومات، ومهارات توظيفها واستخدامها فى بناء بصيرة ووعى عميق عند المجتمع، وبذلك يكون عالما واثقا فى ذاته، قادرا على الانفتاح على فلسفات العالم وثقافته دون أن ينجرف أو يصطدم، بل يشتبك معرفيا، ويحاور ويجادل بالتى هى أحسن، ويحيط بكل ذلك بناء هذه الشخصية على نمط رفيع من الآداب النفسية والوجدانية، لصناعة شخص عالم رقيق القلب، رحيم بالكون كله والدنيا كلها، يستلهم النموذج المحمدى الكريم، فى أرفع الشمائل والآداب والسجايا، حتى يكون ذلك العالم الجليل رحيما، خلوقا، إنسانيا، عقلانيا، ودودا، قد استنار جنانه ووجدانه بآداب النبوة، والخلق المحمدى العظيم، بحيث كلما احتك الناس به خرجوا من التعامل معه وهم يمتلئون إجلالا لنبله وأخلاقه ثم علمه، نعم، هذه هى المهمة الأولى للمؤسسات الدينية، وكل ما عدا ذلك فهو نواتج تلقائية لهذا المنتج الرفيع العالى الجودة، فإن ذلك العالم متى تخرج وقد تم إعداده بهذه الطريقة، فإنه يترك فى وجدان الشعوب والمجتمعات والأمم أثرا رفيعا من تحقيق الأمان، وحفظ الأوطان ومؤسساتها، وبناء وعى الناس على الجدية والاستقامة والهمة والعمل والأمل والحضارة، وإطفاء نيران التطرف والفتن، وإصلاح ما بين الناس فى الخصومات والمنازعات والثارات، وتصويب كل ما يطرأ على المجتمع من مظاهر الخلل، فيكون ذلك العالم حاملا لسراج المعرفة، ومشاعل النور، وصناعة الحياة وفقه الحياة وإكرام الحياة وخدمة الحياة بكل صورها، وحينئذ فإن هذا العالم الجليل -الذى تعبنا فى تصنيعه، وأنفقنا نفقات طائلة على إعداده، وحشدنا له العلوم والمعارف والأساتذة المهرة فى مختلف ميادين المعارف- سيتحول إلى خطيب فى مسجد، أو أستاذ فى جامعة، أو مدرس فى مدرسة، أو متحدث فى الإعلام، أو كاتب مبدع صاحب قلم، أو رحالة يطوف العالم فى جامعاته ومراكزه الثقافية ومنتدياته، فلا يدخل مكانا إلا دخله النور والاستنارة والفهم، فمهمة المؤسسة إتقان صناعة العالم، ونجاح أثره المتألق فى المجتمع، إكراما للإنسان، وحفظا للأوطان، وبهذا الشخص وبعلمه وبأدائه تنطفيء نيران التطرف من الإخوان إلى القاعدة إلى داعش، ويفرغ العقل المسلم سريعا من إسقاط هذه الأغلال، ويتحرر من الفقر والجوع والمرض، وينطلق فى مضمار التمدن، وصناعة الحضارة، وتشييد المؤسسات، ومهما تعددت وجوه أداء ذلك العالم بعد ذلك فإن سيكون ناجحا ومبهرا فى نتائجه، إنه العلم فى أجل صوره المنيرة المشرقة، وقد تجسد فى شخص، فصار ينضح بكل ما يمثله العلم ذاته من تطور واستنارة وفقه وحياة وآفاق واسعة ترجع على الإنسان بسعادة الدنيا والآخرة، ويرجع به هذا الدين كما أراده الله رحمة للعالمين، وهداية للعالمين، نعم، إن المهمة الأولى للمؤسسات الدينية هى صناعة العقول والأشخاص والمواهب، وكل ما عدا ذلك فهو تطبيقات وأداءات وأنشطة فعالة ومتوهجة وناجحة لهذه الصنعة المتقنة، وهل أنزل الله تعالى هذا الدين الذى تتشرف بخدمته تلك المؤسسات إلا لتحقيق هذه المقاصد، وهل يمكن خدمة الدين إلا بفيض متدفق من العلم ينهض على حمله وتطبيقه على الواقع علماء أجلاء أصحاب بصيرة وعلم وأدب رفيع، فيرى فيهم الناس (بحق) أنوار وراثة النبوة، والعلماء كما نعلم جميعا ورثة الأنبياء، وهل للمؤسسات الدينية دور سوى ذلك، وهل ينتظر الناس منها شيئا سوى ذلك، والله من وراء القصد.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف