المصريون
جمال سلطان
الإسلاميون والدين والسياسية .. جذور المشكلة
مداد كثير سال منذ إعلان حركة النهضة التونسية في مؤتمرها العام العاشر عن تحول تاريخي تقطع بموجبه صلتها بما أسمته "الإسلام السياسي" وجماعاته وأفكاره ، وتفصل الحركة عن مسارها الدعوي لتتحول إلى المسار السياسي كحزب مدني ، مرجعيته مجمل القيم الديمقراطية والقواعد المتعلقة بالحريات والعدالة والفصل بين السلطات وسيادة القانون ، وانقسم الناس كثيرا تجاه هذا التطور ، سواء كان الانقسام عن المشروعية بين الإسلاميين أنفسهم ، أو بين مستويات التشكيك عند القوى الأخرى المخاصمة للإسلاميين ، ما بين مستريب في جدية هذا التحول ، وبين مندد به ، وما بين مرحب بتحفظ ، وما بين مستنكر تلك العاطفة الزائدة والاندفاع غير المحسوب ، وما بين رافض لروح الاستعلاء التي تحدث بها قادة النهضة عن تجربتهم مقارنة بتجارب أخرى في الشرق ، وهو ما دفع قادة النهضة ، وفي مقدمتهم الشيخ راشد الغنوشي إلى التعليق والتعقيب على ذلك كله لتخفيف المخاوف والقلق والشكوك . وقبل أي تقييم أو مراجعة لخطوة النهضة ، فإن المراجعة الأهم في تقديري لتجربة الحركات الإسلامية بشكل عام ، سواء الإخوان المسلمين أو غيرهم ، هي مراجعة تاريخية ، للحظة التي ولدت فيها الحركات الإسلامية الشعبية المنفصلة عن المؤسسات الرسمية أو عن الدولة المركزية ، ويمكن أن تكون التجربة التي ولدت على يد الشيخ حسن البنا ـ رحمه الله ـ هي مفتتح هذا التوجه كله ، فكرة الجماعة الإسلامية الشعبية ، التي يكون لها أمير له بيعة تجاه آخرين يتبعونه ويسمعون له ويطيعون ويدينون بالولاء له وللجماعة قبل أي ولاء اجتماعي أو سياسي آخر ، ويشكل هذا الأمير مؤسسات موازية لمؤسسات الدولة ، من خلال مجلس رئاسي "مكتب للإرشاد" ومجلس شورى عام "برلمان خاص" ، ومكاتب إدارية تنظيمية في مختلف المدن والمراكز ونحو ذلك ، وهو أشبه بكيان دولة موازية ، وهكذا قصد البنا بالفعل في بداية نشاطه ، معتبرا أن "الجماعة" هي التحقق العملي لمفهوم الإسلام الشامل ، سياسيا واقتصاديا وتربويا وإعلاميا ورياضيا : (نحن دعوة سلفية ، وطريقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، وشركة اقتصادية ...) ، وكان هذا الوعي الشمولي للتنظيم الديني "الجماعة" نابعا من ردة فعل على إعلان زوال الخلافة الإسلامية التاريخي بإنهاء مظلة الخلافة العثمانية الفضفاضة والضعيفة في العام 1923 ، وهو ما أحدث فراغا معنويا وفكريا وتنظيريا لدى جموع المسلمين في العالم ، فنشطت دعاوى لاستعادة الخلافة من خلال مؤتمرات عقدت في القاهرة ـ برعاية الملك فؤاد نفسه ـ وفي مكة المكرمة وفي الهند ، ولكنها فشلت جميعا ، ووضح أن مسار التاريخ تجاوز الفكرة بكاملها ، فتولدت لدى حسن البنا ، المهموم بالشأن الإسلامي العام في مصر والعالم ، فكرة توليد خلية جنينية لدولة الخلافة ، جماعة تحمل كل مواصفات ومسئوليات دولة الخلافة وتحمي هذه المواصفات وتدعو لها لحين تحقق "تمكين" الجماعة لإعادة دولة الإسلام الراشدة . هذه الفكرة العاطفية ولدت ـ كما أشرت ـ كرد فعل لتطور تاريخي فاجأ العقل الإسلامي ، ولم يكن لديه أي نظريات سياسية جديدة يمكن أن تفتح له أفقا بديلا ، وكان آخر اجتهاد لنظرية سياسية عرفه العقل الإسلامي الجاد متجمدا عند إمام الحرمين الجويني (419 هـ ـ 478 هـ) وكتابه الفذ "غياث الأمم في التياث الظلم" ، والمشهور باسم "الغياثي" وهو الوحيد الذي عالج ـ وفق خبرات زمانه ـ فكرة افتراضية بأن يغيب الإمام أو لا تكون للمسلمين دولة ، فاجتهد حسن البنا في إظهار صيغة "جماعة للإخوان المسلمين" تشغل الفراغ الذي تركه غياب دولة الخلافة لحين تحققها واستعادتها ، ونجحت التجربة بصورة كبيرة في العشرين عاما الأولى من التأسيس ، وأصبحت رقما مهما في السياسة الداخلية المصرية 1928 ـ 1948 ، كما امتدت الفكرة ـ باعتبارها نسخة جنينية للخلافة ـ إلى بلاد عربية وإسلامية عديدة تشكلت فيها أفرع للجماعة . أخطر ما كشفت عنه تجربة الإخوان المسلمين في بواكيرها ، أمران : الأول هو غياب روح التجديد في الفكرة وتطويرها ، باستثناءات جزئية مثل المشاركة السياسية أو مشاركة المرأة أو القبول بالأحزاب السياسية أو التداول السلمي للسلطة في تصور إسلامي جديد ، لكن فكرة الجماعة وروحها وشموليتها وتميزها واستعلائها وتمثل ظل الخلافة فيها ، ظلت متجمدة وحاكمة على الخيال وعلى البنية التنظيمية وعلى الأفكار وعلى العلاقة مع الآخرين ، أفرادا وحكومات ، وهذا ما جعل الجماعة تعيد انتاج أخطائها الكارثية رغم تغير النظم وتغير الحكومات وتغير الحكام وتغير المنطقة الجغرافية أيضا . الأمر الآخر ، وهو فرع عن الأول ، هو الصدام الدائم المتكرر بين الجماعة وبين "الدولة" ، سواء في العصر الملكي أو في عصر عبد الناصر أو السادات أو مبارك أو الوضع الحالي ، وسواء كانت التجربة في مصر أو دولة عربية أخرى ، وهو صدام كان حتميا وبديهيا ، لأن ما تمارسه الجماعة ليس حراكا سياسيا داخل مؤسسات واحدة أو دولة واحدة ، وإنما صدام بين كيانين متوازيين ، أحدهما يمثل "الدولة" ، والآخر يمثل "دولة جنينية" موازية وبديلة ، وهو صدام أرهق الاثنين على الدوام ، فقد استنزف الدولة ودفعها للتوحش والخوف الدائم ، كما استنزف طاقات الجماعة وطاقات أجيال من الشباب المسلم الجديد الذي انضوى تحتها وآمن بمشروعها ، بوضعه في صدام مجاني لم يكن له مبرر بالأساس ، أو كان يمكن تصريفه في أداء سياسي مختلف ومن خلال بنية مؤسسية حديثة تحقق تطورا آمنا للمجتمع وتراكم خبراته نحو التحديث والتحرر والديمقراطية . الإخوان ليسوا مسئولين بطبيعة الحال عن الجماعات الإسلامية الأخرى الراديكالية أو الجهادية التي ظهرت على مدار التاريخ الطويل من الستينات الميلادية وحتى الآن ، ولكن المشكلة أن تلك الجماعات عندما نشأت كانت تستلهم نفس الخيال والبنية التنظيمية التي ظهر بها حسن البنا ، نفس القالب الذي صبه وأظهره ، الجماعة والأمير والبيعة والعمل السري أو العمل خارج إطار الدولة ومؤسساتها ، ومع تزايد خوف "الدولة" وتزايد وحشيتها وأدوات السيطرة لديها ، تزايدت ـ بالمقابل ـ نزعات التوحش والعنف لدى تلك الجماعات الدينية حتى وصلنا إلى نموذج "داعش" المروع ، والذي حاول إخراج "الدولة الجنينية" التي كان يحلم بها حسن البنا من عالم الفكر والخيال والأمل إلى عالم الواقع بإعلانه "الدولة الإسلامية" في العراق والشام . وللحديث بقية ...

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف