الوطن
د. محمود خليل
العشوائيون يتكلمون (2)
كان داود المصرى -أحد أبطال مسلسل حديث الصباح والمساء- عشوائياً واعياً بذاته، ووجد حل مشكلاته فى العودة إلى أصله فى مسقط رأسه، وغرق فى الحياة الدافئة بين أشباهه. دعنى الآن أحكِ لك عن نموذج واقعى خطير للنتائج التى يمكن أن تترتب على عدم فهم «الكائن العشوائى» لنفسه، وعدم محاولته التوقّف للفهم، ليتضح لك ماذا تصنع النفس غير الواعية بعشوائيتها بصاحبها. إنه نموذج سيد قطب.

عاش سيد قطب تائهاً، منذ أن وطئت قدماه القاهرة المعزية، وافداً من إحدى قرى الصعيد. وظنى أنه أحس -فى معية هذه النقلة- بغربة عميقة، كان مردها أن القاهرة أقل عشوائية من قرى الصعيد، وبالتالى أنتجت حياة مختلفة عما عاشه فى دار أبيه الذى فقد أرضه بسبب تكاثر الديون عليه، وأمه التى كانت وثيقة الصلة بالقرآن، وكانت تغريه بقراءته، لكن صوته لم يكن من الجمال، بحيث يتمكن من إمتاعها. حاول «قطب» أن يجد لنفسه موضع قدم فى دنيا الأدباء والمفكرين والنقاد، لكن المناخ وقتها كان مزدحماً بالكثير من القامات الكبرى التى تاه «قطب» بينها، كما تاه فى حياة القاهرة، لم ينجح كأديب، وأفلح كناقد أدبى، لكن ذلك لم يُرضِه، لأنه كان توّاقاً إلى أن يكون الأبرز والأهم دائماً، متناسياً درس الفروق بين «الطموحات والقدرات».

أحب فتاة قاهرية، كان لها من العادات والتقاليد غير ما له، فنسجت معه علاقة فى الوقت الذى كانت تربطها فيه علاقة أخرى بضابط تزوجها فى ما بعد، ليخرج «قطب» من حياتها. سافر سيد قطب فى بعثة -تابعة لوزارة المعارف- إلى الولايات المتحدة الأمريكية، فخرج إلى مجتمع أكثر نظامية من مجتمع القاهرة، اشتد فيه «توهانه»، فكتب يسخر من أمريكا إلى حد اللعن، ثم عاد إلى القاهرة يبحث عن أى دور، أو جهة أو مؤسسة تكتشف قدراته، فالتقطته ثورة يوليو فى البداية، وأصبح أحد خطبائها والمدافعين الأشداء عن الضباط الأحرار، لكنه كان يحلم معهم بدور يتشابه مع دور «ميرابو» فى الثورة الفرنسية، ولم يكن يملك أدواته، ولمّا وجد نفسه خالى اليدين مع الثورة، التقطته جماعة الإخوان، ونصّب من نفسه زعيماً، ونبياً جاء بالفهم الصحيح للإسلام، فتاه معهم فى غيابات السجون، وانتهى به الأمر إلى حبل المشنقة.

الشاهد فى حياة سيد قطب أنه تاه فى عشوائيات أرقى من الحالة العشوائية التى نشأ فيها، ولو أنه عاد إلى أصله كما عاد «داود المصرى»، ربما كانت اختلفت سيرته ومسيرته كثيراً، والعودة إلى الأصل هنا لا تعنى مجرد العودة إلى المكان أو إلى مسقط الرأس، بل استدعاء القيمة الإنسانية فى المكان الذى نشأ فيه ونسجها فى منتج إبداعى، كذلك فعل الأبنودى وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله، وكثير من المبدعين الذين جاءوا من قلب الصعيد، لكن مشكلة سيد قطب أنه كان مفرطاً فى عشوائيته، فنسى أصله الصعيدى، ولم يكن له أى صدى فى كتاباته، وأصبح تركيزه على القاهرة، ومراكز السلطة فيها، فكانت النتيجة أن ضاع بفكرة عشوائية، ظن من خلالها أن بإمكانه هدّ المعبد فوق رؤوس الجميع، ليجلس وحده على العرش، فإذا به واقفاً على منصة الإعدام.. ليرحم الله الجميع..!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف