إذا كانت رحلات المكان هي نبض الكتب السابقة لحسين قدري. بحيث استحق صفة "أديب الرحلات". فإنه يطالعنا في هذا الكتاب برحلة مغايرة. فهي تخترق الزمان. تصل بين ما كان وبين زماننا الحالي. من خلال مجموعة من تلاميذ التقطت لهم صورة جماعية في الدراسة. ثم مضت الأعوام. وصار الحاضر ماضياً بعيداً. وثار السؤال: أين تفرقت السبل برفاق الصورة القديمة؟!.
يشير حسين قدري إلي أن فكرة تأليف الكتاب واتته بعد أن قرأ قصة قصيرة لنجيب محفوظ. عن كهل في الخمسين يبحث عن زملاء دراسته القدامي..
الفكرة تذكرني ــ شخصياً ــ بقصة أخري لمحمود تيمور عن رجل عثر بالمصادفة علي صورة قديمة له وسط مجموعة من أصدقائه القدامي. أدرك ــ في رحلة بحثه ــ وفاتهم جميعاً. عدا صديق وحيد. حياته أقرب إلي الصعلكة. يجد في بحث صديقه عن رفاق الصورة ما يغريه بابتزازه. فهو الوحيد الذي بقي من الأصدقاء. ورحيله يعني اقتراب الموت من صاحب الصورة. ذلك كان التصور الذي صارح به صديقه الصعلوك!.
الرحلة هنا تختلف. فهي لا تكفي بالرصد. وإنما تتأمل تبدل الأحوال بين البداية والنهاية. بين ما كان تعد به الأيام. وما صارت إليه: أنجب التلميذ الذي أصبح موظفاً صغيراً في إدارة يترأسها من كان الفشل أفق حياته. المصادفة التي قد تبدل الأمور إلي النقيض. العيش الهنيء عندما يتحول ــ بلا مبرر ــ إلي مأساة قاسية. الخ.
الأسلوب ــ كما ألفنا في كتابات حسين قدري ــ بسيط وسهل وتحدثي .. الكاتب يتجه إلي قارئه باعتباره صديقاً. يأخذ منه ويعطي له. تستوقفه الملامح الظاهرة الجوانية. يحاول الغوص في أعماق الشخصية. والتعرف إلي دلالة التصرفات التي قد تتسم بالعفوية. وبواعث تبدل المسار تماماً. فهو يتجه إلي عكس الهدف الذي كان يأمله صاحبه في مرحلة الصبا. أو كنا نأمله له.
رحلات المكان في كتب حسين قدري تطالعنا باللافت والطريف ــ والغريب أحياناً ــ في هذا العالم.. أما رحلات الزمان فهي تعني بحياة العديد من الشخصيات ضمتهم صورة واحدة في زمن الطفولة. كيف أصبحوا في زمن الكهولة. فالشيخوخة. والعبر التي يوميء بها الفنان بعيداً عن المباشرة والجهارة. بل انه يغلف المواقف المأساوية بسخرية شفيفة. لا يشغلها النيل من الشخصية. بقدر ما تشير إلي الظروف القاسية التي قد تثمر عكس النتائج المرجوة..
ظني انه لو اتجه حسين قدري ــ بكل ما يملكه من رهافة فنية ــ إلي الإبداع القصصي أو الروائي. فسيضيف إلي ذلك الإبداع قيماً جميلة.