العشوائية على مستوى المجتمع ترتبط بثقافة الاستيطان، ومحبة الأرض التى نشأ عليها الإنسان، ربما تشابهت شعوب أخرى معنا فى هذه السمة، لكن ظنى أن المصرى شديد الحدة فى مسألة الالتصاق بالمكان، والتمسك بالأرض. من نافلة القول أن أذكر لك بداءة أن المصريين يعيشون منذ آلاف السنين على مساحة لا تزيد عن 3.5% من رقعة الأرض التى تشكل مساحة أرضهم. فالمصرى شديد الالتصاق بالنيل، وهو يعالج الزيادة فى عدد الأنفس التى تتراكم عبر السنين بالمزيد من الصعود العشوائى، وليس الامتداد الأفقى؛ لأن زحزحته عن أرض وضع أقدامه عليها أمر من الصعوبة بمكان، وربما كانت تلك -فى بعض المواقف- إحدى فضائل العشوائية فى حياة المصريين.
لكن الاستيطان أحياناً ما تكون له أبعاد أخرى سلبية تصل إلى حد الضحك. بإمكانك أن تلاحظ هذا فى تأفف المصريين من مسألة الإيجار الجديد للمساكن، وميلهم إلى الإيجار بـ«خلو رجل»، أو التمليك. ولعلك تعلم التأثيرات المفزعة لسيطرة نظام التمليك على أسعار وتكلفة المساكن فى مصر. والأساس فى هذا الأمر هو الرغبة العارمة فى عدم الانتقال من المكان الذى درج الإنسان على العيش فيه إلى مكان جديد. تعالَ إلى المضحك فى الفكر الاستيطانى للمصريين، واسترجع بعض الخناقات التى تشهدها المساجد فى صلاة الجمعة بين مواطن وجد غيره يجلس فى موضع من المسجد تعود على الجلوس فيه، للاستماع إلى الخطبة، أو الصلاة، رغم تناقض ذلك مع فضيلة السجود فى أكثر من موضع. وتذكر معى أيضاً تلك التسمية التى خلعها المصريون على جهاز الموبايل، يوم أن دخل ديارهم، لقد سموه «المحمول»، وهى تسمية أو ترجمة تعكس الفكر السكونى الذى يحكم الرأس المصرى. وأنت تعلم أن غيرنا يطلق على الموبايل «الجوال»، لكن هذه التسمية مرفوضة فى مصر؛ لأنها تعنى التحرك، ولا تستقيم مع فكرة الاستيطان فوق الأرض.
الاستيطان ليس مجرد مسألة ترتبط بالمكان، بل أحياناً ما يكون توطناً فى العادات والتقاليد والأفكار، فنحن لا ننسى قديمنا بسهولة. والمثل المصرى يقول «من فات قديمه تاه»، رغم أن لكل عصر ظروفه، ولكل إنسان خصوصيته. العقلية التى دأبت على الاستيطان فى الأفكار والتعلق بها رغم قدمها وتجاوز الوقت لها هى التى تيسر قبول فكرة مثل فكرة الخلافة الإسلامية، والإصرار على أنها أصل من أصول الإسلام، رغم تجاوز الزمن لها. فمن العجيب أن تجد أن تيارات الإسلام السياسى التى نشأت فى مصر كانت أكثر إصراراً على إحياء هذه الفكرة، بعد مرور 4 سنوات فقط على سقوط الخلافة العثمانية عام 1924. والعجيب أنك لا تجد أن الشعوب التى كانت مقراً للخلافة تدافع هذا الدفاع المرير عنها، مثل الشعبين السعودى والتركى.
معنى الاستيطان لدى المصريين معنى كبير يصل بنا فى بعض الأحوال إلى حد الاستيطان فى الأشياء، ولو أنك تأملت الكثير من المنازل فسوف تجد أنها مزدحمة بالعديد من الأشياء القديمة معدومة الفائدة، لا لشىء إلا بسبب هذه الرغبة فى الاحتفاظ بالقديم، وتمديده فى الحياة، حتى لو أدى إلى إضفاء المزيد من العشوائية عليها. ربما كان السر فيما نحن فيه أننا شعب قديم، يضرب بجذوره فى أعماق التاريخ، ويحيط بنا القديم من شتى الاتجاهات. والعقل يقول إن من يواجه مثل هذه المشكلة عليه أن يفهم تأثيرها على حياته، ويحاول شيئاً فشيئاً التخلص منها، أو يتقبلها كما هى، ويحاول أن يحسنها ويرممها كما نرمم الآثار، ويتعايش معها، ويستمتع بها مثلما يستمتع بأكل «العسل الأسود»..!.