جمال سلطان
المستقبل السياسي للإخوان والجماعات الإسلامية
طي صفحة "الجماعة الإسلامية الشعبية" أيا كانت اللافتة التي تحملها أصبحت ضرورة تاريخية وشرعية أيضا ، تأخر الوصول إليها كسلا من العقل الإسلامي ، لأن الحالة التاريخية ـ نفسيا وفكريا وسياسيا ـ التي استدعت لجوء حسن البنا ـ رحمه الله ـ إلى قالب "الجماعة الإسلامية" ، إعلان زوال الخلافة ، انتهت وتقترب من مائة عام الآن ، فلم تعد الصدمة مبررا ، ولم يعد العجز عن إيجاد نظرية إسلامية جديدة تتفق مع الوضع الإنساني والاجتماعي والسياسي الجديد مبررا أيضا ، مائة عام كانت كافية للعقل المسلم أن يخرج من أسر تلك العاطفة وأن "يبدع" أفكارا جديدة تجيب على سؤال حول موقع الإسلام من المجتمع الحديث ومن السياسة ومن الدولة القطرية بمحدداتها الجديدة ، وما هي الوسائل والأدوات والهياكل التي يمكن أن ينشط من خلالها الفرد المسلم للمشاركة في الشأن العام ، سياسيا أو اقتصاديا أو دينيا أو غير ذلك ، مائة عام كانت كافية لإعادة صياغة نظرية "الخلافة" ذاتها ، باعتبار "هيكلها" اجتهادا توصل إليه سلفنا الصالح في سياق خبرات زمانية واجتماعية ودولية وتقنية ، تجاوزتها الإنسانية الآن ، وأخرجت صيغا أخرى للنظم "الامبراطورية" إن صح التعبير ، في صيغة حديثة ، كاتحادات فيدرالية أو كونفيدرالية أو كومنوولث بصيغ متعددة أو غير ذلك مما يمكن تطويره والإضافة إليه من أفكار وحلول تحقق الوحدة السياسية للعالم الإسلامي في ذات الوقت الذي تحترم فيه الدولة القطرية والولاءات الحديثة المرتبطة بها ، وتستوعب التباينات الدستورية في نظم الحكم المختلفة . مشكلة الخلافة ليست التحدي الوحيد للعقل الإسلامي وللجماعات الإسلامية على اختلاف أسمائها ولافتاتها والذي شكل عجزا فكريا وعقما في الخيال السياسي ، بل لا بد من الاعتراف بأن الإسلاميين ما زالوا مترددين أمام منظومة القيم الحديثة المنظمة لإدارة المجتمعات والسياسة والسلطة ، ففكرة الديمقراطية ذاتها بكامل أبعادها "العملية" لم تحسم ، كما أن أفكارا من مثل التعددية السياسية والتداول السلمي للسلطة والحريات العامة والمواطنة والفصل بين السلطات وسيادة القانون واحترام المؤسسات الدستورية والالتزام بها ، كل ذلك وغيره لا تسلم به الجماعات الإسلامية حتى الآن ، وكثير من ذلك لا يعنيها أساسا ولا تنشغل بدراسته أو وضع تصور نظري عاقل للتعامل معه ، بل أغلب الأدبيات التي نشرت في السنوات الأربعين الماضية هي ضد هذا كله صراحة وتسخر منه وتعتبره خروجا على قواعد الإسلام ، وبعض الإسلاميين يعلن قبول تلك المنظومة ويتماهى معها في مرحلة "الاستضعاف" ثم ينقلب عليها أو يتهرب من استحقاقاتها أو يحاول الالتفاف عليها عندما يتوسد السلطة أو تكون بقبضته ، لأنه لا يؤمن بها كقناعة وخيار حقيقي ، وهذه الأفكار يمكن أن تكون أقل خطورة إذا كانت رؤى أفراد أو تصوراتهم في الشأن الإسلامي ، ولكنها تكون خطيرة بالفعل عندما يختزنها عقل جماعة وتنظيم ينشط في المجال العام ويضع السلطة هدفا له ، وسواء كان تنظيما سريا أو علنيا ، لن يفرق الأمر كثيرا في خطورته ، وعندما نجح الإخوان في مصر في استثمار زخم ثورة يناير ووصلوا للسلطة وأصبحت معهم السلطة التشريعية والسلطة التنفيذية "الحكومة" ومنصب رئيس الجمهورية ، رفضوا ـ رغم الإلحاح ـ حل التنظيم أو تقنينه وتحويله لجمعية أهلية تحت رقابة القانون والمؤسسات الدستورية ، لم تقبل الجماعة أن يكون "المرشد" مسئولا أمام وزير أو وزيرة الشئون الاجتماعية ، وكان موقفا خارج حدود تصور أي عقل سياسي بأي وجه . فكرة تحول الجماعة الدينية إلى حزب سياسي ، على نحو ما فعل الأخ والصديق الشيخ راشد الغنوشي هي خطوة في الاتجاه الصحيح ، لكنها ليست كافية ، كما لن تكون صحيحة على المدى البعيد ، لأن المكون الفكري والروحي والتاريخي للجماعة يختلف تماما عن فكرة "الحزب" في التنظيم السياسي الجديد ، كما أن الخلط سيظل قائما وتنازع الولاءات سيظل قائما بين الديني والسياسي في داخل بنيته بل وبين قياداته ، وسيكون ذلك عائقا لتطور الحركة شعبيا وسياسيا وتنظيميا ، ومستنزفا لطاقاتها في الجدل الداخلي ومولدا لتناقضات دائمة مربكة ومعطلة ، كما لن يثمر ذلك في إنهاء الوساوس والمخاوف لدى القوى الوطنية والسياسية الأخرى على خلفية "ميراث" طويل من القلق والأخطاء ، وبعضها أخطاء اعترفت بها النهضة بشجاعة حقيقية ، وإنما الخطوة الجادة والحاسمة هو إنهاء هذا المسار التاريخي كله ، نقطة ومن أول السطر ، وتتحول أي حركة إسلامية إلى جماعة أهلية في إطار قانوني ومؤسسي ، يمكن أن تهتم بالعمل الخيري أو الإغاثي أو التربوي أو الدعوي الديني أو الحقوقي أو الثقافي ، دون أي اختلاط مباشر بالسياسة أو ممارستها أو التزاحم "الحزبي" في صراعاتها ، على أن يخلى المجال لطاقات جديدة تؤسس أحزابا سياسية جديدة أكثر انفتاحا على المجتمع وغير مثقلة برؤى تاريخية ولا ترتبط بأي منظمات أو جمعيات أو جماعات ، ارتباطا مباشرا أو غير مباشر ، وتعمل وفق بنية قانونية ودستورية ، وأعتقد أن هذا هو وجه الخلاف الأهم بين ما فعله رجب طيب أردوغان من خلال حزب "العدالة والتنمية" في تركيا ، الذي تجاوز ميراث أربكان ـ رحمه الله ـ بكامله ، وما يفعله الآن الشيخ راشد الغنوشي وإخوانه في تونس . تبقى هنا ملاحظتان في غاية الأهمية ، الأولى تتعلق بالمناخ السياسي الذي يمكن أن يحدث فيه هذا التحول في العقل السياسي الإسلامي في العالم العربي ، إذ يحتاج ذلك إلى مناخ من الحرية والانفتاح والتعددية وسيادة حقيقية للقانون واستقلال حقيقي للقضاء لدى الدولة ومؤسساتها ، يشجع عليه ويحميه ويتيح له ظرفا صحيا للنمو والتطور والمشاركة وضمانات باحترام الحق في الاختلاف السياسي ، وكلما كان المناخ السياسي الرسمي أكثر انغلاقا وقسوة وتشددا كلما صعب إنجاز هذا التحول في مسار الحركات الإسلامية أو إقناع شبابها تحديدا به ، بل سيعتبرونه مخاطرة بلا ضمانات ، والغريب أن هذا التشدد والانغلاق الرسمي سببه الأساس هو التوجس والخوف من الحركات الإسلامية ، أي أننا أمام المعضلة النمطية ، الدجاجة أولا أم البيضة ! . الملاحظة الثانية ، أن هذا التحول لا يعني قطيعة مع الدين أو انفصالا عنه ، فهذا ـ عمليا ـ غير ممكن في المجتمع الإسلامي ، سواء للسلطة أو أي أحزاب أخرى ، لا يمكن لحزب سياسي عربي أن يعلن تصادمه مع الدين ، وفي أجواء الديمقراطية والبحث عن "الصوت الانتخابي" ستجد سباقا بين الجميع لإظهار احترامهم للدين وتقديسهم لشرائعه ، لأن هذا المجتمع متدين بطبيعته ، ولا يحتاج وصيا من جماعة أو حزب كما لا يقبل استخفافا به أو احتقارا له من جماعة أو حزب أيضا ، فهذه النقطة ينبغي أن لا تبقى هاجسا عند الإسلاميين ، فالدين لا يحميه الحزب ولا الجماعة ، وإنما يحميه الناس والمجتمع ، كما أن فكرة العلمانية المخاصمة للدين أو المنقلبة على الكنيسة هي "خصوصية" أوربية في سياق صراع تاريخي ديني وسياسي ، وليس لها نظير في الحالة الإسلامية ، تاريخا ودينا وسياسة ولا توجد كنيسة أصلا في الإسلام ولا شبيه لها ، ولا يصح أن ننشغل بهذه القضية أساسا بأي وجه ، كما لمح ذلك بذكاء مبهر قبل سبعين عاما المفكر النمساوي المسلم الفذ محمد أسد "ليوبولد فايس" في كتابه "الطريق إلى مكة" ، كما لا يصح أن يصور هذا الاجتهاد السياسي الجديد على أنه تنازل للشرق أو الغرب ، أو ليرضوا عنك ، هذا منطلق خاطئ ، هذا الاجتهاد الجديد هو حاجة أصيلة الآن للمجتمع المسلم وللأجيال الجديدة ، لا بد من الخروج من "الشرنقة" النمطية للقالب الذي تم صبه قبل مائة عام ، والذي جعل "الحالة" الإسلامية على هامش الدولة ومؤسساتها ، كما جعل الدولة ذاتها على هامش العالم الجديد ومؤسساته المهيمنة على البشرية سياسيا واقتصاديا وعسكريا .