بعد عشر سنوات من الغياب ما زال مكانه شاغراً - أحمد زكي "1949 - 2005" طبعة فريدة ووحيدة ظهرت ثم نفدت مبكراً تاركاً ميراثاً فنياً يجعله حاضراً وبقوة رغم الغياب.
الفنان المتفرد لا يمكن استنساخه ولا تقليده ولا صناعته في معاهد صناعة الممثل.. وأحمد زكي فنان متفرد.
بعض مكونات أحمد زكي ليست من صُنعه. هناك يد الله جل جلاله واهب الموهبة الخلاقة. وهناك التكوين العصبي الذي يجعله حزمة من الأوتار الحساسة. والغُربة المفروضة منذ الميلاد. والبصيرة اليقظة التي تلتقط التفاصيل من وسط غيوم الحياة.
أحمد زكي فنان بالسليقة. وحزين بالميلاد وظروف النشأة قدره ان يخلق لنفسه وجوداً موازياً من صنعه هو بدلاً من "صناعة" لم يكن له يد فيها.
وبهذا التكوين أدرك مبكراً ان عالم "التشخيص" مجاله. والسباحة في أفق الخيال رياضته التي تتسع لموهبته وتوقه إلي الحياة. وبفصاحة الفلاح آمن أنه لا حصاد بدون زرع ولا قدرة علي قطع المسافات الصعبة دون شحذ الهمة وأن البحث عن بدايات الطريق تستدعي منتهي الجدية ومنتهي التواضع معاً وكذلك الطير بعيداً عن مرمي الصقور المتربصين بالحمائم الواعدة في عالم ادرك هو بقوة ملاحظته أنه عالم محكوم بالادعاء والنفاق والزيف رغم البريق والشهرة.
أحمد زكي ممثل يمثل بقلبه. وبحواسه. وبتركيز ذهني عميق "التشخيص" عنده حالة نفسية عقلية عاطفية يستدعيها في مزيج من الانفعالات الدقيقة ينعكس علي ملامحه وعلي ادائه الصوتي ولغة جسده. إنه حالة شعورية يسقط معها الفاصل بين ما هو خيالي وما هو واقع. ويسقط بالضرورة القناع الفاصل بينه وبين المتلقي للشخصيات التي يلعبها.
والشخصيات التي يؤديها أحمد زكي يصدقها المتفرج ويتفاعل مع انفعالاتها ويتعايش مع تقلباتها. شخصياته حتي أبسطها تصبح "مُركبة" علي المستوي النفسي بتنوع درجات ادائه لها. والايحاء بما يجول في أعماقها.
إنها في الأغلب نفوس متباينة الألوان حالمة أوهاربة أو متسلطة أو طاغية أو نصابة تجيد الدجل "البريء". "الهروب". زوجة راجل مهم". "البيضة والحجر..الخ".
ويلعب التوقيت هنا دوراً لم يكن أيضاً من صنع أحمد زكي فقد كان من عظيم حظه ظهوره بينما صناعة السينما المصرية غنية بمنتجين مؤمنين بالفن السينمائي - ولم يكن "التلوث" والعشوائية في هذا الميدان قد وصلا إلي ما وصلت إليه الصناعة الآن.. ولقد توافق ظهوره مع كتيبة المخرجين المبدعين من أمثال عاطف الطيب وداود عبدالسيد وعلي بدرجان وخيري بشارة ومحمد راضي إلي جانب كتاب مثل وحيد حامد. بشير الديك. مصطفي محرم. فايز غالي ومصورين علي مستوي سعيد الشيمي أدام الله عطاء من واصلوا المسيرة بعد غياب أحمد زكي وعافي السينما المصرية حتي تعود إلي عافيتها المرجوة.
هؤلاء المخرجون العظام الذين أثروا السينما بأعمال خالدة ادركوا بميزانهم الحساس الامكانيات غير المحدودة لهذا الممثل المتفرد. آمنوا بقدراته فاحاطوه ببيئة فنية وأسندوا إليه ادواراً ستظل حية وشاهدة علي ملامح حُقبة زمنية أفرزتها وصاغت ملامحها "عيون لا تنام. أرض الخوف. هند وكاميليا. العوامة 70".
رحم الله أحمد زكي ابن الشرقية "بلدياتي" ومواليد برج "العقرب" مثلي وكنت أول من التقيت به مصادفة حين كان طالباً في المدرسة وكان مازال يحلم بالتمثيل ويبحث عن الخطوة الأولي علي الطريق!