الجهاد في سبيل الله من أعظم القربات إلي الله ومن يسعده الحظ. ويستشهد في أتون المعارك. ينعم الله عليه بأفضل الدرجات.. "ولا تحسبنَّ الذين قُتلُوا في سبيل الله أمواتاً. بل أحياء عند ربهم يُرزَقُون. فرحين بما أتاهم الله من فضله. ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم. ألا خوف عليهم ولا هُم يحزَنون".. ولذلك كان رسول الله "صلي الله عليه وسلم" حريصاً علي أن ينادي كل الناس المعاصرين للدعوة المحمدية. وحينما حان وقت الخروج لغزوة تبوك. بعث سيد الخلق "صلي الله عليه وسلم" مَن ينادي بالإسراع للخروج في سبيل الله فاستجاب معظم من بلغتهم الدعوة. لكن تخلف بعض الناس وكان من بينهم مالك بن قيس بن خثيمة الأنصاري. وشهد غزوة أُحُد وسائر الغزوات. لكن شاءت الأقدار أن يتخلف مالك بن قيس. بينما سار الجيش بقيادة رسول الله "صلي الله عليه وسلم" بلا انتظار للمتقاعسين. أو المتخلفين سواء بعذر وبغيره. ولكل واحد حسابه عنده رب العالمين.
بعد أن خرج جيش المسلمين عاد مالك إلي منزله وتصادف أن كان اليوم شديد الحرارة. ووجد امرأتين في عريشين. كل واحدة منهما قامت بتجهيز عريشها ورشه بالماء. وأعدت الماء البارد. وهيأت طعاماً طيباً. واتخذت كل منهما الزينة بصورة تسترعي الانتباه. وكل واحدة منهما تنتظر عودة الزوج العزيز مالك بن قيس بن خثيمة وتتطلع في نفس الوقت أن تحظي بوجوده معها في العريش الحافل بكل المغريات. خاصة مع حرارة الجو الشديد. ولكن عند وصول مالك لفت نظره ما أعدته زوجتاه. فقال في نفسه عريش يتمتع بظل بارد. وماء بارد. وطعام مهيأ لتناوله بصورة مغرية. وامرأة حسناء بانتظار رؤيته. ثم استمر في حديثه لنفسه: هل يليق من جانب مالك ابن قيس أن يركن إلي هذا المتاع. بينما رسول الله "صلي الله عليه وسلم" مع جيش المسلمين يقاتلون في سبيل الله وأضاف في حديثه لنفسه قائلاً: والله ليس هذا التصرف من الإنصاف. ووسط صحوة الضمير أردف مالك: والله لن أدخل عريش أي منكما حتي ألحق برسول الله "صلي الله عليه وسلم".. وطلب من كل منهما أن يعدا له زاداً لكي يتمكن من اللحاق برسول الله "صلي الله عليه وسلم".
نوبة الصحيان التي أدت إلي استيقاظ ضمير مالك هي التي أهلته للقيام بالرحلة. لكي يلحق بركب رسول الله "صلي الله عليه وسلم". فانطلق مالك والآمال تراوده في أن يحقق الله رجاءه. وأن يصل إلي هناك قبل أن يرحل الرسول وجنده. من أرض تبوك.
ومن المصادفات الطيبة أن مالك وصل إلي أرض تبوك وأدرك الرسول والجيش وامتلكت السعادة وجدانه. وفي ذات الوقت كان أصحابه يتطلعون للطريق. فقالوا هذا راكب علي الطربق. وترامت أقوالهم إلي مسامع رسول الله "صلي الله عليه وسلم". فقال متفائلاً: كُن أبا خُثيمة. فلما اقترب من مقر رسول الله "صلي الله عليه وسلم" قال الناس: هو والله أبوخثيمة. وفرحوا بوجوده معهم. وبعد أن أناخ راحلته وهيأ كل احتياجاته بوضعها في أماكنها. وعلي الفور اتجه والسعادة تملأ جوانحه. نحو سيد الخلق "صلي الله عليه وسلم". وعندما وصل مجلسه سلَّم عليه. ورحب به ثم قال رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "أولي لك يا أبا خثيمة" بمعني أنك دنوت من الهلاك. لكن أكرمك الله بما أقدمت عليه من الانضمام لركب المجاهدين في سبيل الله.. وقد أخبر أبا خثيمة رسول الله "صلي الله عليه وسلم" بما شاهده عند عودته إلي زوجتيه. فقال له رسول الله "صلي الله عليه وسلم": "خيراً".. ودعا له بخير.. تقديراً لموقفه وعدم الاستجابة للمغريات التي اعترضت رحلته للجهاد. وتلك هي الثمار الطيبة التي غرسها رسول الله "صلي الله عليه وسلم" في قلوب أصحابه. ومما تناقلته كتب التراجم والسيرة أن أبا خثيمة هو الذي تصدق بالصاع من التمر. فلمزه باستهزاء المنافقون. فأنزل الله عز وجل قوله تعالي: "الذين يلمزون المطوعين من المؤمنين في الصدقات والذين لا يجدون إلا جهدهم".