الجمهورية
على هاشم
أزمة كل عام.. حكم قضائي حسم القضية!!
¼ تسريب الامتحانات تطور طبيعي لثقافة سمحت بالغش وارتضي به ضميرها منذ سنوات. وفشلت الحكومات المتعاقبة في إيجاد حل لتلك المعضلة.. نعم هي معضلة وليست نتاج منظومة تعليمية متخلفة وعقيمة فحسب بل منظومة أخلاقية كان الغش والتسريب أحد إفرازاتها. ولم تنزعج منه إلا عندما خرج عن السيطرة وكاد يطيح بمصداقية نظام التعليم كله ويضربه في مقتل!
تسريب الامتحانات إلكترونيًا جاوز الإجراءات التقليدية للحكومة. ولا أبالغ إذا قلت إنه جاوز قدرتها علي التصدي والمنع. وهذا للأسف ما اعترف به وزير التربية والتعليم أمام البرلمان. حتي أن الرجل صرح بأنه طلب قطع الإنترنت أثناء إجراء امتحانات الثانوية العامة.
الغش جرثومة ترعرعت في بيئة حاضنة. غضت الطرف عن تشوهات أخلاقية عديدة ضربت المجتمع. وجعلته يستسلم للاحتكار ورفع الأسعار والغش في السلع والمنتجات حتي بات مشهد بيع لحوم الحمير مثلاً متكررًا رغم التحريم القاطع لأكلها.. لكن جشع التجار وضعف رقابة الحكومة وغيابها وصمت المجتمع عن جرائم من هذا النوع يسمح بتكرار مثل هذا الجرم رغم فداحته.
¼ الثانوية العامة باتت مهددة.. ومصداقية التعليم علي المحك. والأمور مرشحة لأكثر من ذلك. إذا تركت المنظومة علي حالها العقيم. فمنع تسريب الامتحانات ليس في حاجة إلي إجراءات أمنية وقانونية وتقنية عالية فحسب لكنه في حاجة أيضًا إلي ثورة علي المناهج وطرق التدريس ومواصفات الامتحانات لننتقل من التلقين وقياس القدرة علي الحفظ والاستظهار إلي قياس قدرات العقل علي الإبداع والنقد والاختراع واللحاق بالعصر في العلوم والرياضيات والتعليم الفني القادر علي توليد فرص عمل. ومراكمة الإنتاج وتوليد الثروة مثلما يحدث مثلًا في ألمانيا التي تجني نحو 150 مليار دولار كثمرة للتعليم الفني الناجح.
تسريب الامتحانات وسريان الغش في بعض لجان أبناء الكبار التي سمعنا عنها ليس فقط إهدارًا لمبدأ تكافؤ الفرص والعدالة التعليمية ولا إساءة لنظام الحكم تتمناها جماعة الإخوان الإرهابية وتعمل علي ترويجها وتهويلها لكنه فوق هذا وذاك مفسدة لأخلاق المجتمع. ودافع لاهتزاز الثقة. ليس فقط في كفاءة التعليم ومخرجاته بل في أخلاق النشء والشباب. وطعنة في قلب المستقبل.. فكيف نأتمن أمثال هؤلاء الغشاشين علي مقدرات البلاد ومصيرها مستقبلا؟!
ينبغي علي الحكومة التي تركت الحبل علي الغارب حتي طال الغش كل شيء. أن تبادر بفتح تحقيق عاجل وجاد وإنزال أقصي العقاب وأقساه بمن سمحت ضمائرهم بالتلاعب بعقول هذه الأمة ومستقبلها وأخلاقها. لاسيما الضالعون في جرائم الغش والتسريب من أبناء وزارة التعليم نفسها هذا علي المدي العاجل.. أما الهم الأكبر الذي ينبغي ألا ننساه فهو وضع حد لهذه المهزلة المسماة بـ ¢الثانوية العامة¢ ونسف هذا النظام العقيم الذي كان أحد أسباب تدهور التعليم في مصر.
علينا الاعتراف بداية بأن القائمين علي تطوير التعليم لاسيما في مرحلة ما قبل الجامعي ليسوا علي كفاءة ونزاهة كافيتين لطمأنتنا علي المستقبل. فوزير التعليم. وهو رأس تلك المنظومة. لم يقدم جديدًا حين واجهه البرلمان بجريمة الغش والتسريب. واكتفي الوزير بالاعتراف بعجز وزارته عن منع هذه الظاهرة. ولم يتطرق من قريب أو بعيد إلي جوهر النظام التعليمي الذي يسمح بتكرار مثل هذا الغش في كل عام.. وكنا نتوقع منه حلولاً ناجعة. تستند إلي تغيير جوهري في نظام الامتحانات ومن قبلها المناهج وفق رؤية إصلاحية تراعي التطور العالمي والخصوصية المحلية. وتستعين بخبرات مصرية مشهود لها بالكفاءة دوليًا.
المؤسف في وقائع تسريب الامتحانات هذا العام. وما سبقه من أعوام هو وجود بيئة اجتماعية حاضنة لهذا الفساد الأخلاقي. فثمة أولياء أمور ساعدوا أبناءهم علي امتلاك أحدث أدوات الغش حتي سمعنا عن قيام بعض الطلاب بإجراء جراحات لتركيب سماعات أذن خصيصًا للغش..وثمة معلمون شاركوا في التسريب أو سكتوا عن ممارسة الغش داخل اللجان. وثمة مسئولون تورطوا في تسهيل الغش وتسريب الامتحانات وهنا صارت المصيبة مركبة حيث غابت القدوة ومات الضمير
.. وكان طبيعيًا أن يستحل الطلاب الغش أخلاقيًا مادام آباؤهم ومعلموهم قد باركوا مثل هذا العمل. وسعوا إليه. غير مبالين بالأثر الأخلاقي علي الأبناء.. فكيف ننهاهم عن شيء أتي به كبارهم وقدوتهم.. والسؤال هل يمكن التعويل علي صحوة ضمائر البشر أو استقامة أخلاقهم للتوبة عن الغش أم يجب إلزامهم بعصا القانون. وتكريس مبدأ الوقاية خير من العلاج..؟!
وقد تناولت محكمة القضاء الإداري برئاسة المستشار د. محمد عبد الوهاب خفاجي نائب رئيس مجلس الدولة ظاهرة الغش الجماعي وتسريب الامتحانات في سياق نظرها إحدي الدعاوي وقالت في حيثيات حكمها إن ظاهرة الغش الجماعي وتسريب الامتحانات في التربية والتعليم كارثة تربوية وأخلاقية وتعليمية تعود إلي الفشل الذي أصاب دور المعلم وإدارة المدرسة والطلاب وأولياء الأمور الذين لم يحسنوا إدارة هذه المنظومة التعليمية.
ولم يفت المحكمة أن تنبه إلي أن التعليم في خطر جلل. يستلزم استنهاض الأجهزة التعليمية والتنفيذية والتربوية لتغيير نظام التعليم. و اتباع طرق حديثة غير تقليدية لوضع الامتحانات لتبتعد عن التلقين. وتقديم المناهج بما يناسب روح العصر.. فهل قرأ وزير التعليم أو معاونوه حيثيات هذا الحكم الناصع. وهل اتخذوها دستورًا لضبط منظومة الامتحانات ورسم سياسة تعليمية مستقبلية تليق بتاريخ وحجم هذا البلد..؟!
لم تكتف المحكمة بتشخيص العلة ووصف الدواء. بل طالبت الدولة بوضع التعليم والنهوض به علي رأس أولوياتها كمدخل للتنمية. وهو الأمر الذي نطالب به منذ سنوات ولم تتحرك لأجله الحكومات المتعاقبة..ويحدونا الأمل في البرلمان ولجنة التعليم التي يدرك أعضاؤها ورئيسها أنه ما من دولة تقدمت إلا وكان التعليم رافعة لهذا التقدم. ومبدأه وغايته. وأنه لا يليق أن تدخل مصر القرن الواحد والعشرين بمناهج وامتحانات القرون الوسطي.
¼ التعليم قضية مصير..وليس هناك أمة نهضت بغير عقول أبنائها وسواعدهم وابتكاراتهم وإبداعاتهم..تقدم التعليم يلزمه إرادة مجتمعية وجهود مخلصة يبذلها علماء نابهون وطنيون. وحكومة تشجع التعليم وتؤمن بحتمية إصلاحه,وتنفق عليه بسخاء وتربط مخرجاته بتنمية المجتمع المحلي.. فاختراعات العلماء واكتشافاتهم لا تأتي من فراغ ولا مصادفة بل بجهود متواصلة دءوبة. ومن ثم فإصلاح التعليم لا يحتمل أي تأجيل أو تسويف بل يلزمه جراحة عاجلة ماهرة وجدية تعصمه من بيروقراطية الموظفين وأعداء النجاح والتطور. فالتعليم الناهض شرط لأي تنمية. وعلاج هذا الملف أشد أهمية حتي من محاربة الفساد أو الخروج علي القانون. فالفاسدون لو تلقوا تعليمًا صالحًا ما فسدوا وما خرقوا القانون ولانصلح المجتمع كله.
متي نتعلم من أخطائنا ونتخلص من كابوس اسمه ¢الثانوية العامة¢ التي باتت رعبًا للطلاب وأسرهم..متي نتخلص من الامتحان التقليدي الذي يسهل اختراقه وتسريبه. وقد صار سببًا في إفساد التعليم وجعله متخلفًا جامدًا يراوح مكانه بين الحفظ والاستظهار تارة. والغش والاستهتار تارة أخري.. متي يتوقف وزير التعليم ـ أي وزير ـ عن ترديد عبارته الأثيرة في كل عام بأن الامتحان لن يخرج عن المنهج. وأنه في مستوي الطالب المتوسط.. فكيف يساوي واضعو الامتحان بين طالب متميز وآخر فقير الموهبة والقدرات.. أليس التعليم الفني جديرًا بهؤلاء وأولي بهم..؟!
من الصعب انتهاج ذات الأسلوب وتوقع نتائج مغايرة. ومن ثم فلا مخرج لنا من هذه الدائرة الجهنمية إلا بتغيير كبير نستلهم ملامحه من أفكار مفكرينا العظام أمثال د. طه حسين الذي لخص روشتة العلاج في كتابه المهم ¢ مستقبل الثقافة في مصر ¢ وكذلك ما سطره شيخ التربويين د. حامد عمار. أو رؤية د. حسام بدراوي وغيرهم.
ثمة أفكار عبقرية يمكنها أن تنقلنا لمصاف أرقي. فمثلاً لماذا لا نقيم كليات فائقة التطور في تخصصات بعينها تضارع أعرق جامعات العالم. فمثلاً يمكن اصطفاء مجموعة من نوابغ كليات الزراعة علي مستوي القطر كله ليلتحقوا بكلية جديدة للزراعة تدرس مناهج تناسب قدراتهم ليكونوا نواة تساعد الدولة في استصلاح المليون ونصف المليون فدان بأحدث التقنيات والمكتشفات وهكذا في جميع التخصصات.. أتصور لو بدأنا بهذه الفكرة البسيطة يمكننا إحداث طفرة علمية بحثية في تخصصات تحتاجها مصر بشدة.
آن الأوان أن تترجم الحكومة مبادئ الدستور والقانون إلي واقع فلا يكفي أن يخاطب الرئيس رجال الأعمال والتجار بقوله ¢رفقًا بالبسطاء¢.. بل علي الحكومة أن تحول ذلك القول إلي واقع بسلطة القانون.. يشعر به الناس ويلمسون من خلاله وجود الحكومة في حياتهم.. وكفانا عشوائية وتغييبًا لدولة القانون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف