يسرى السيد
احتمي بعم طوغان والجمهورية من الجنون "2 ــ 2"
كلما اختنقت تحول القلم في يدي لجمرة نار... لا استطيع الإمساك به من جهة.... ومن جهة ثانية لا استطيع الفكاك منه... وهذا هو العذاب بعينه... ابحث عن الملاذ والمهرب والبقاء في نفس الوقت متشبثا بالحياة حتي ولو كانت وهمية....احتمي بالذكريات لعلها تنقذني من الجنون ولو مؤقتا . أبحر في الماضي للاتكاء علي حديث الأصدقاء ممن فارقوا الحياة... أحاورهم وهم هناك بعد أن يئست من الحديث مع من يسكنون هنا.... الراحلون هم ملاذ الهاربين أمثالي ولو مؤقتا.... ينتقل العذاب إلي داخلي... أشعر أن الكلمة في خطر..... أكاد أكفر بها وبجدواها بعد أن وجدت الحروف أمامي مجرد عيدان حطب جافة يمكن كسرها بسهولة أو اشتعالها بفعل فاعل في وجهي "بحكة" عود كبريت بسيطة...
اليوم استكمل الاحتماء بعم طوغان شيخ رسامي الكاريكاتير في مصر والعالم العربي كما كنت أحب أن أناديه قبل أن يرحل بسنوات... أفخر أنني تحاورت معه كثيرا.... ويزداد فخري حين أقول إنني زميل لطوغان في جريدة الجمهورية... . وما أقصده طبعا هو إنني زاملت قرنا من الإبداع والصحافة والإنسانية والفن والسياسة.... توقفت في الحلقة الاولي من ذكرياته معي عند ابعاده عن الجمهورية ونسترجع قصة عودته مرة اخري إلي حبه الأول... الجمهورية؟
يقول طوغان : في يوم جاءني سعد الدين وهبة وكان أيامها مدير تحرير الجمهورية. وبعد شرب القهوة قال لي: صدر أمر من الرئيس عبدالناصر شخصيا برجوع جميع المفصولين وكلهم عادوا ولم يبق إلا أنت. كان المفصولون معي هم بيرم التونسي وسامي داود ومحمد الفيتوري وإبراهيم عامر ورائد عطار وآخرين!
قلت لسعد إن قراري ترك الجمهورية والبعد عن العمل بالصحافة نهائي لا رجعة عنه! فبصرني بخطورة الموقف وما يسببه عدم امتثالي. فرويت له قصة محل التحف فقال: وهوه محل التحف ده مش عاوز ترخيص؟! لما تيجي تطلبه مش ح تأخذه!.... قلت: ح أسرح بعربية ترمس. قال: عسكري البلدية ح يمسك وسكت ثم قال: ارجع أحسنلك ومتنساش إن المرتب الشهري مضمون!....وعندها ضعفت مقاومتي وعدت إلي الجمهورية. كانت غرفة الرسم قد خلت من اللباد والبهجوري وقطب وفضلون ومديحة رجب وعطيات الدسوقي ومحمد قطب. تسربوا الواحد وراء الآخر. أما فضلوان الفنان العبقري فقد نقلوه إلي مجلة الإذاعة. ورشاد حبيب للحسابات! أما أنا فعشت مهمشا. وبدأت رسومي تنزوي وتفقد حيويتها ولا تجد لنفسها مكانا!
اليانصيب لزيادة التوزيع
وفي محاولة لزيادة التوزيع الذي كان قد بدأ في التراجع لجأوا إلي الياناصيب مثل اشتري الجمهورية تكسب سيارة! وألف جنيه لقارئ الجمهورية بالإضافة إلي العدد الكبير من الصفحات الذي يزيد أربع مرات عما تطبعه باقي الصحف!.....أيامها لم يكن استعمال أكياس البلاستيك قد عرف بين الناس. وكان استخدام ورق الصحف معمولا به في لف وتغليف الأشياء. بلغ سعر الورق في هذه الأيام أعلي من ثمن الجريدة نفسها. وكان مستوي التحرير متدنيا وبعيدا عن اهتمامات غالبية الناس. كنا نسهر في محل كان اسمه الكاب دور في شارع عدلي. وكان صاحب المحل من أصل يوناني واكتشفنا أنه يشتري نسختين من الجمهورية ولما سألناه قال: عشان تنضيف الزجاج!
كلب ماجدة
لم تكن الجمهورية تحظي بتواجد صلاح سالم في غالب الأيام. وكانت حوله مجموعة من قيادات الدار تصحبه في رحلات بأنحاء القطر! وفي يوم جاء إلي الجريدة ودعا إلي اجتماع عام حضرته قيادات وأعضاء أسرة التحرير احتفالا بزيادة التوزيع وكنت بين الحاضرين. ولأن لساني عادة ما ينفلت مني طلبت الكلمة. وعندما وقفت قلت: إن زيادة التوزيع غير طبيعية وأن الجريدة لا تؤدي الغرض الذي أنشئت من أجله. واليوم منشور فيها علي الصفحة الأولي وعلي ثلاثة أعمدة خبر يقول: إن كلب الممثلة ماجدة ضاع! وأريد أن أعرف ما هو المقصود من نشر هذا الخبر وبهذه الطريقة؟ هل هي دعوة للشعب المصري للقيام بالبحث عن كلب ماجدة؟!.....وقع الحاضرون في صمت وذهول. فوقف صلاح سالم واستشاط بالغضب قائلا: أمال أنت عاوز ايه؟! وحلا للموقف الذي تكهرب وأصبح علي وشك الانفجار تأبط جلال فيظي الذي كان مديرا لمكتب صلاح ذراعه وغادر به المكان بين ذهول الحاضرين!....ذهب صلاح سالم وترك في الجمهورية خمسة رؤساء تحرير هم إبراهيم نوار وإسماعيل الحبروك وكامل الشناوي وموسي صبري والصحفي الفلسطيني ناصر النشاشيبي وسارت الأمور في هدوء!
الجزائر ومرحلة النضال
لكن كيف تحولت الريشة في يد طوغان إلي بندقية في الجزائر.... يقول طوغان :
جاء حلمي سلام الذي كان علي علاقة وثيقة بتنظيم الضباط الأحرار قبل الثورة وكان من أشد المتحمسين للحياة الجديدة وأخذه الحماس إلي الاعتقاد بأنه واحد من أعضاء مجلس الثورة وكان يتصرف علي هذا الأساس وكان من المقربين للمشير عبد الحكيم عامر وشكا له يوما كسل العاملين وتراخيهم. فجاء البوليس الحربي وقبض علي عدد منهم. كما أبعدوا بعدها عددا من الصحفيين ووزعوهم علي الوزارات والشركات!
لم يستمر في الجمهورية أكثر من عام واحد بعده جاءنا الأديب الشاعر المهذب مرهف الحس والشعور "مصطفي بهجت بدوي" الذي عشت في فترته أشعر بالتقدير والمودة. وفي عهده سافرت إلي الجزائر وعشت مع ثوار جيش التحرير الوطني الجزائري وعدت إلي مصر بأربع عشرة صفحة نشرتها الجمهورية تباعا وعن طريقها عرف الناس ما يحدث في الجزائر!
وفي عام1966 جاء فتحي غانم رئيسا لمجلس الإدارة ورئيسا للتحرير. وبعد مجيئه بفترة وقعت كارثة1967!
أنا وعبدالناصر
لكن كيف كانت علاقة طوغان بالزعيم الراحل جمال عبد الناصر؟ ..يقول طوغان :
في يوم12 يونيو1967 كتبت خطابا للرئيس جمال عبد الناصر قلت فيه: إن المسئولية فيما وقع مشتركة وحددت مسئولية الإعلام وبالذات مسئولية تحرير الجمهورية التي كانت بعيدة عن الأحداث وانشغالها بما هو بعيد عن الواقع. ويبدو أن خطابي للزعيم اعتبروه تجاوزا!
وكل الذي حدث بعدها أنني عندما ذهبت في اليوم التالي إلي الجريدة لم أجد مكتبي ولا طاولة الرسم التي كنت أرسم عليها. وقالوا لي إن فتحي غانم أمر برفع المكتب والطاولة! ومن يومها وأنا ليس لي مكان في الجمهورية وتعاملي معها عن طريق الفاكس!
عبدالمنعم الصاوي
كان مجيء الصاوي خيرا وبركة وعهداً زاهراً بالنسبة لكل العاملين في الدار وهو الذي استصدر قرارا بلائحة أجور للصحفيين. قبلها كان مرتب الصحفي حسب المزاج وكان التفاوت بين المرتبات يثير الإحباط والغيرة والحسد والمرارة في نفوس القاعدة العامة للصحفيين. كما استطاع الصاوي تقويم الكثير في إدارة الجريدة وكان يكتب فيها عاموده اليومي قطر الندي وكانت علاقتي بالصاوي وثيقة ودافئة فيها مودة وحب واحترام وتقدير!..وتقدم الصاوي لترشيح نفسه في انتخابات مجلس الشعب ونجح وأصبح عضوا في البرلمان. وبعد فترة رشح وكيلا لمجلس الشعب بعدها أصبح وزيرا للإعلام!...بعد عبد المنعم الصاوي تولي محسن محمد مكانه رئيسا لمجلس الإدارة إلي جانب رئاسته للتحرير التي كان يشغلها قبل ذهاب الصاوي!
محسن محمد
لكن كيف كانت علاقة طوغان بمحسن محمد؟........ يقول طوغان :
وما إن جلس محسن علي الكرسي الجديد حتي انصرف إلي شئونه الخاصة وكتابة مقالاته إلي جانب هوايته في القراءة التي تلتهم معظم وقته. وهو يقرأ في اليوم تلا من الصحف والمجلات المصرية والعربية والأجنبية بالإضافة إلي الكتب الجديدة....اكتفي محسن بالتحرير واخترع أبوابا جديدة أبرزها كان بابا لإعلانات الزواج والطلاق وبابا لأعياد الميلاد. كما ضم إلي أسرة التحرير عناصر جديدة منها الناجح الذي ساعده إخلاصه وموهبته علي سلوك الطريق الصحيح. ومنها الانتهازي الذي لجأ إلي النفاق والدس والوقيعة وحصل علي الترقي وجني المكاسب والامتيازات!...بدأت أشعر من محسن تجاهي بشئ من الجفاء. ولم اهتم. ومن خصالي التي أضرت بي أنني أتجنب من يجافيني. خصوصا إذا كان كما اعتقد بدون سبب. ولأننا نعمل في دار واحدة فكان لابد أن يحدث بيننا لقاء. في الصالة أو في المصعد أو في مدخل الدار.....ويستطرد طوغان: كنت ألقي من محسن محمد التكشير والأزورار فأتعجب ولا أحاول سؤاله عن معرفة السبب وأهمل الموضوع واعترف بأن تصرف محسن تجاهي شغلني وحاولت تخمين السبب. وتذكرت مرة أنني كنت جالسا في حديقة نقابة الصحفيين انتظر شراء سكر من محل كانت النقابة قد أقامته علي جزء من حديقتها قبل المبني الحالي لبيع المواد التموينية للصحفيين حفاظا علي كرامتهم من الوقوف في الطوابير!....أيامها كانت الفراخ واللحم والسكر واللبن والزيت يجري توزيعه بالبطاقات. وفي انتظاري لفتح المحل دخل الزميل عادل سليمان الذي كان يعمل أيامها محررا في الجمهورية. وكانت بين عادل ومحسن معركة شرسة. كثيرا ما كان يتدني فيها عادل وتخرج من فمه العيبة في حق محسن. وكنت دائما أنصحه وأحيانا كنت أعنفه. وعندما وجدني في الحديقة جاء وجلس إلي جانبي!