محمد سعد عبد الحفيظ
الاستبداد.. والانقلاب على المراجعات
فى الخامس من يوليو 1997، ارتفع صوت محمد أمين عبد العليم، أحد أعضاء الجماعة الإسلامية، من قفص اتهام القضية العسكرية رقم 235 ليعلن «وقف العمليات العسكرية والبيانات المحرضة لها من جانب واحد دون قيد أو شرط.. لمصلحة الإسلام والمسلمين»، وذلك بناء على طلب اثنين من قيادات الجماعة، وهما الشيخ كرم زهدي، والشيخ على الشريف، اللذان طالباه بتلاوة البيان أثناء وجود وسائل الإعلام فى المحكمة بطريقة مفاجئة حتى لا يمنعه أحد.
ورغم ما أثاره البيان من جدل، إلا أن الشكوك ظلت تحيط بنوايا الجماعة الإسلامية، حتى جاءت عملية الأقصر فى نوفمبر من نفس العام لتنسف كل الآمال التى تعلقت بالإعلان.
الحادث الذي راح ضحيته 58 قتيلا من الأجانب، اعتبرته قيادة الجماعة فى السجون طعنة فى الظهر، وطفت على السطح خلافات بين قيادات الداخل والخارج، بعدها أعلن عدد كبير من مشايخ الجماعة عن تأييده للمبادرة.
وعقب الحادث الذي ضرب صناعة السياحة في مصر لشهور، جاب أصحاب المبادرة السجون ليقنعوا باقي الأعضاء بمواقفهم الجديدة، وبدأت الأمور تتفاعل حتى عام 2002.
صدرت سلسلة تصحيح المفاهيم وتبرأت الجماعة من أحداث العنف وكل العمليات المسلحة التي تعرضت لها مصر فى الفترة من 1990 حتى عام 1997.. وراجعت وأعادت النظر فى الكثير من ثوابتها، خاصة القضايا المرتبطة بالجهاد، على رأسها “الخروج على الحاكم بالقوة، والحاكمية، وتغيير المنكر باليد”، وهي القواعد التي استند إليها قادة وشباب الحركات الأصولية الإسلامية طيلة القرن الماضي وبدايات القرن الحالي.
فى لقائه بقيادات وقواعد الجماعة الذي تم في يونيو 2002، وصف الكاتب الصحفي مكرم محمد أحمد، رئيس تحرير «المصور» آنذاك، ما حدث للجماعة بأنه انقلاب فكري، وقال فى اللقاء الذى استمر لنحو 8 ساعات «الجماعة ملكت شجاعة أن تعلن فكرها الجديد واضحا، دون أن تترك فرصة للظن أو الحيرة، أو تستخدم لغة ذات وجهين، أو يعتريها الرغبة فى حفظ ماء الوجه خصوصا فى المواقف الصعبة التي تشكل انقلابا كاملا على فكر الجماعة القديم».
وبلغت ذروة الانقلاب إلى حد وصف أمير الجماعة، كرم زهدي، للرئيس الراحل أنور السادات بـ«شهيد الفتنة»، بعدما كانت الجماعة تطلق عليه «الهالك»، وقال إنه لو عاد به الزمن ما اشترك فى قتله، فيما أبدى الدكتور ناجح إبراهيم، الرجل الثاني فى الجماعة حينها، موافقته على اتفاقية كامب ديفيد، ووصفها بـ”الخطوة السديدة الممكنة فى وقتها”، وشبهها بـ”صلح الحديبية”.
دولة مبارك أسندت ملف مراجعات جماعات العنف الأصولي إلى جهاز مباحث أمن الدولة، تحديدا اللواء أحمد رأفت، المعروف كوديا في صفوف التنظيمات الأصولية بـ”الحاج مصطفى رفعت”.
خرج الآلاف من أبناء الجماعة الإسلامية من السجون بعد توقيعهم على المراجعات الفقهية، ولحق بهم أعضاء تنظيم الجهاد بعد توقيعهم على وثيقة ترشيد العمل الجهادي التي صدرت بطريقة لا تختلف عن “تصحيح المفاهيم”، التي كتبها منظر التنظيم، الدكتور سيد إمام.
لم تصمد مراجعات الجماعة الإسلامية وتنظيم الجهاد طويلا وسقطت في أول اختبار، فعدد كبير من أعضاء التنظيمين داسوا على أوراق المراجعات بأقدامهم في ميداني رابعة العدوية والنهضة عقب سقوط الرئيس الإخواني محمد مرسي واستعادوا ذاكرة المواجهة مع الدولة، لتبدأ مصر موجة جديدة من موجات العنف.
بعد فض اعتصامي رابعة والنهضة، انضمت جماعة الإخوان أكبر التنظيمات الأصولية عددا وأكبرها تمويلا إلى دوامة الدم الجديدة، فمنذ إزاحتهم من السلطة في 30 يونيو 2013، أصبح هدف واضعي الخطط الاستراتيجية لعمل الجماعة هو ضرب استقرار الدولة، وخرج من رحم الجماعة التي طالما تغنى قادتها بالاعتدال وأنهم أصحاب مشروع “الإسلام الوسطي”، عدد من المجموعات المسلحة مثل “الانتقام الثوري” و”المجموعات النوعية المتقدمة” التي تبنت مجموعة من الأعمال الأرهابية مثل تفجير محطات الكهرباء واغتيال ضباط شرطة.
دارت الدائرة، دون أن يتعلم نظام الرئيس عبد الفتاح السيسي شيئا من تجربة الماضي، لا في أدوات المواجهة أو آليات الاحتواء، فالعصا الأمنية سبقت السياسة في معركة تعتمد في الأساس على الفكر، وعندما قررت الحوار فتحته من خلال مشايخ النظام الذين يتبنون مواقفه وتوجهاته.
فالشيخ أسامة الأزهري، مستشار الرئيس وعضو مجلس النواب المعين، هو مبعوث “الداخلية” لمحاورة أعضاء الإخوان و”داعش” في طرة، بحسب ما نقله زميلنا محمد خيال الصحفي المتخصص في ملف الحركات الإسلامية في “الشروق” الاثنين.
خيال نقل عن مصادره الموثوقة فى سجن «العقرب»: أن وزارة الداخلية بدأت سلسلة مراجعات لأفكار سجناء الإخوان، وداعش، إضافة للسجناء الشباب الذين يختلطون بالسجناء المتشددين ويتأثرون بأفكارهم.
وأضاف أن أولى هذه المراجعات كانت الأسبوع الماضى، بحضور الدكتور أسامة الأزهرى، الذى رد خلال المحاضرة الأولى التى ضمت مئات السجناء معظمهم من الشباب، على عدد من الآراء الفقهية التى يتبناها أعضاء اللجان النوعية، إضافة إلى تفنيد الكثير من مواقف سيد قطب.
وأوضحت المصادر أن إدارة السجن أبلغت الشباب بضرورة حضور تلك المحاضرات؛ لأنه سيكون هناك قرارات قريبة بالعفو عن العديد من الشباب السجناء، وهو ما دفعهم لحضور أولى المحاضرات التى نظمها الأزهرى، الذي أبلغهم بدوره أنها لن تكون الأخيرة وستتبعها محاضرات أخرى توضح لهم الكثير من النقاط الشرعية الملتبسة لديهم.
وكشفت المصادر أنه عقب المحاضرة، عقد ضباط الأمن الوطنى بالسجن جلسات تحقيق مع الكثير من الشباب الذين حضروها، مؤكدين لهم أنه عقب كل جلسة سيكون هناك تحقيق لمعرفة مدى التغيير الذى طرأ على أفكار الحاضرين من السجناء، تمهيدا للسعى إلى العفو عمن يتأكد تخليه عن الأفكار المتطرفة.
تعامل دولة يونيو مع ملف الإرهاب لم يختلف كثيرا عن الإجراءات التي اتخذتها دولة مبارك على مدار عقود لحصاره، فالأمن يطغى على السياسة، والمواجهات البوليسية قوضت كل محاولات تفكيك الأزمة واقتلاعها من جذورها.
الاستبداد هو البيئة الحاضنة لكل حركات العنف الأصولي، والظلم هو السماد الذي يخصب تربتها ويغذيها، فلا مجال لانتشار أفكار تلك التنظيمات في أجواء من الحرية والمساواة والعدل.