المساء
محمد جبريل
من المحرر .. الحياة في الإبداع
أشعر ـ في أحيان كثيرة. وحتي الآن ـ ان ذهني مزدحم بعشرات الرؤي والصور والوقائع والذكريات التي تحرضني علي تسجيلها. علي كتابتها في صورة إبداعية. أو في سيرة ذاتية. وإن كانت البداية ـ في الأغلب ـ شخصية عابرة. أو حدثاًً بسيطاً. الشخصية التي أعرض لها بأسلوب الحافر علي الحافر ـ في تعبير اللغويين ـ أولي بها سيرة ذاتية. أو ترجمة. لهذه الشخصية. قد استقي الشخصية التي أتناولها في قصة أو رواية لي. من أحد الأقارب أو الأصدقاء. لكنني لا أصور الشخصية كما عرفتها. وإنما كما تكتبها الرواية أو القصة. تختلط الملامح التي أعرفها بملامح الشخصية الفنية. ثمة شخصيات أميل إلي الكتابة عنها بمجرد رؤيتها. كتلك السيدة التي رأيتها في محطة الترام. وهي تحمل حاجيات بيتها. لم تفارق ذهني حتي كتبت عنها ـ بعد عشرات الأْعوام ـ في تبقيعاتي النثرية "مد الموج". إذا أردت تصور مشهداً مكانياً. فإني ألجأ إلي الورقة والقلم. أرسم المشهد بكل تفصيلاته. بحيث يعينني علي التصور في أثناء الكتابة. ذلك ما فعلته عندما تهيأت لروايتي "قلعة الجبل". كانت عائشة عبدالرحمن القفاص تسكن حدرة الحنة. ذهبت إلي شارع الجاولي الذي تشير الكتب إلي تفرع الحدرة عنه. عرفت انها تلاشت بتوالي السنين. لكن "الجودرية" ظلت قائمة. ربما لأن المسافة الزمنية قريبة من الحملة الفرنسية. وساكت بيت الجودرية الشيخ خليل البكري. وابنته زينب. ذلك أيضاً ما فعلته في العديد من فصول "رباعية بحري": قلعة قايتباي. حلقة السمك. قصر رأس التين. جامع أبو العباس. بيت المسافرخانة. قصر أم البحرية. متحف الأحياء المائية. وأماكن أخري.
أذكر اني ترددت ـ مرات كثيرة ـ علي القهوة التجارية. أستوعب قسمات المكان الذي كان له دور البطولة في روايتي "المينا الشرقية". وصحبت صديقي الدكتور محمد زكريا عناني إلي شارع صفر باشا. ملنا إلي شارع جانبي هو أحمد كشك. لأقرن الصور التي أتذكرها في مقام سيدي منصور. في جانب الشارع. بما هو قائم. وطالت جولاتي في شارع محمد علي. وما يتفرع عنه من شوارع وحارات ودروب. أتأمل. أحدق. أسأل. أسجل. أتصور العالم الذي سيكون نبضاً لروايتي "سكة المناصرة".
قال لي نجيب محفوظ إن عنايته بالشخصيات الهامشية. والثانوية. لا تقل عن عنايته بالشخصيات الرئيسية: أم حنفي. بائعة الدوم. بائع الصحف. جرسون القهوة. الجندي جوني. شيخ الحارة.. انه يحرص علي أن تكون ضمن ملفات الشخصيات الروائية. تتناثر في سياق العمل بما يضيف اليه. ولأن أم مريم مثلت إضافة غير محسوبة للأحداث. فقد أسقطها الفنان بالموت!
بالإضافة إلي النوتة الصغيرة التي كان يضعها نجيب محفوظ في الجيب العلوي للجاكت. فإنه كان يحرص أن يضع ملفات لشخصيات الرواية. وتطورات أحداثها. متي تظهر الشخصيات؟ ومتي تختفي؟ وإلي أي حد يظل الفنان ممسكاً بخيوط العمل. لا يفلته إلا وفق إرادة مسيطرة. هي إرادة الفنان.
وقبل أن يبدأ نجيب محفوظ في إعداد ملفات الثلاثية. فإني أجده قد تنقل ـ بعيني الفنان ـ في شوارع الحي وميادينه وحواريه وأزقته وأقبيته. وبين بيوته ومساجده وزواياه ودكاكينه ومقاهيه. يتأمل كل شيء بدقة. يبحث عن المعالم التي ستكون قواماً لروايته.
لأن بيت بين القصرين كان يطل علي شارعين هما بين القصرين والنحاسين. فقد اختار قصر بشتاك لسكني أسرة أحمد عبدالجواد. تطل أمينة من مشربيته علي الشارعين المتوازيين. يفصل بينهما سبيل. وثمة بائع العصير والمقهي ونداءات الجرسون والباعة.
هل كان ذلك هو السبب في عرض صلاح أبو سيف علي محفوظ أن يكتب للسينما؟.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف