الصباح
حلمى النمنم
«السيسى » يستعيد إمبراطورية محمد على الإفريقية
*استعادة العلاقات التاريخية مع إثيوبيا وتمهيد الطريق لشراكة اقتصادية تحمى الأمن المائى لمصر
*زيارة البرلمان الإثيوبى حسمت معركة سد النهضة على طريقة خطاب «السادات» فى الكنيست
*«السادات» تجاهل إفريقيا بسبب اهتمامه بالولايات المتحدة و«مبارك» كرهها لأسباب نفسية

فى الأربعينيات أصدر د. مراد كامل فى سلسلة «اقرأ» كتابًا عن العلاقات بين مصر والحبشة أو مصر وإثيوبيا، رصد فى فصل منه المدارس المصرية والعلمية والمدرسين الذين بعثت بهم مصر إلى هناك، فضلًا عن الخدمات الاجتماعية والصحية، التى تقدمها مصر نحو إثيوبيا، ومنذ عهد الخديو إسماعيل، وربما من أيام جده محمد على، كان الاهتمام بمنابع النيل أمرًا أساسيًا فى الاستراتيجية المصرية، وتم الحفاظ على هذا النهج حتى بعد حرب أكتوبر 1973، لكن منذ منتصف السبعينيات حدث تحول فى الاهتمام الرسمى المصرى... ولابد أن نبدى إعجابًا بتفكير الخديو إسماعيل، هذا الرجل الذى قرر أن يجعل مصر قطعة من أوروبا، وأسس «القاهرة الخديوية» أو القاهرة الإسماعيلية، لتكون عاصمة مصر الحديثة، وبالمناسبة كانت عاصمة جديدة بكل المقاييس، مجاورة للقاهرة الإسلامية، لكن هذا الرجل نفسه الذى وضع عينه على أوروبا ووضع العين الأخرى على منابع النيل، وأسس هناك ما يطلق عليه تاريخيًا الإمبراطورية المصرية فى إفريقيا، وحول هذه الإمبراطورية دارت رسالة الدكتوراة التى وضعها د.صبرى السوربونى بالفرنسية فى مجلدين، وسار خلفاؤه على هذا النهج، حتى الملك فاروق.
فى تجربة محمد على نجد أن بصره من البداية كان متجهًا إلى منابع النيل، فذهب إلى السودان، وهو الذى وحد السودان وأسس العاصمة «الخرطوم»، رمى محمد على بذور مودة وعلاقات أخوية بين شعبى وادى النيل، مازالت ممتدة وقائمة إلى اليوم، ثم توسع إسماعيل فى الأمر، وسعى للوصول إلى منابع النيل واكتشافها وإعداد الدراسات حولها، ولعب إسماعيل دورًا مهمًا فى محاربة تجارة الرقيق بالقارة السمراء، حيث جفف هذه التجارة من المنابع، لينهى قرونًا من العبودية والنخاسة.
بعد ثورة 1952، حدثت تحولات فى السياسة والتوجهات المصرية، لكن سارت مصر الناصرية على نهج مصر الملكية فى إفريقيا، وتفاصيل العلاقة الودودة بين الرئيس عبد الناصر والإمبراطور هيلاسلاى إمبراطور إثيوبيا معروفة للكثيرين، حتى أنه زار مصر للعزاء فى وفاة عبد الناصر، لكن حدث التحول منذ منتصف السبعينيات... وأخذ التحول مستويين، الأول عدم الاهتمام بإفريقيا عمومًا، والثانى خلق حزازات مع دول إفريقيا بلا مبرر.
كان الرئيس السادات متجهًا كليًا إلى الغرب، وتحديدًا إلى الولايات المتحدة وهو صاحب التعبير الشهير أن 99 فى المائة من أوراق القضية فى يد أمريكا، وكان قصده قضية الشرق الأوسط، والصراع العربى - الإسرائيلى، ويمكن القول أن هذا التصور لم يكن صحيحًا فى أى يوم من الأيام، 99 فى المائة من أوراق القضية فى يد أطرافها المباشرة، أى مصر وفلسطين وسوريا والأردن ولبنان وإسرائيل، أما الولايات المتحدة وغيرها فدورها لا يتجاوز المساعدة فقط وتهيئة الأجواء، والسادات نفسه لم يكن يدرك قيمة مصر ودورها، بل دوره هو شخصيًا، واقع الحال أن نسبة كبيرة من أوراق وملف القضية كانت فى يده هو شخصيًا، ولذا حدثت الحلحلة فى الموقف حين أقدم على مبادرته فى نوفمبر 77 بزيارة إسرائيل وإلقاء خطاب فى الكنيست، لكن الرئيس السادات توسع وجعل 99 فى المائة من أوراق الكون والمستقبل فى يد الولايات المتحدة، فدخل فى صدام مع العالم العربى، وتجاهل إفريقيا، وبسبب ارتباطه بالولايات المتحدة ورغبته فى دخول صراع لصالحها مع التواجد الروسى فى المنطقة، دخل فى أزمة مع الرئيس منجستو، رئيس إثيوبيا الذى كان وثيق الصلة بالاتحاد السوفيتى، ولم ينتبه إلى أن علاقتنا بإثيوبيا يجب أن تعلو على الارتباطات الصغيرة والأزمات العابرة. ثم جاء الرئيس مبارك ليسير على نهج السادات بصورة أشد، صحيح أن السادات أجرى مصالحة مع العالم العربى، لكن بقى رهانه على الغرب والولايات المتحدة ومن ثم أعطى ظهره لإفريقيا، بل يحكى عنه أنه كان دائم التهكم فى جلساته على اهتمام د.بطرس بطرس غالى بإفريقيا، ونسى هو - سياسيًا - أن دولة إفريقية هى التى بادرت إلى ترشيح د.بطرس سكرتيرًا عامًا للأمم المتحدة، وكانت الطامة الكبرى سنة 1997، حين وقعت محاولة اغتيال مبارك بعد خروجه من مطار أديس أبابا، وثبت أن المحاولة قام بها بعض الإرهابيين الإسلاميين، انطلقوا من السودان وأن مسئولاً سودانيًا رفيعًا كان ضالعًا فى المؤامرة، كما قيل كذلك أن رجال الأمن الإثيوبيين لعبوا دورًا غير هين فى التعامل مع الإرهابيين، بينهم «صول» اخترقت جسده رصاصات الإرهابيين، وأدى تصديه لهم إلى عرقلة حركة فرقة الاغتيال، مما مكن حرس مبارك من التعامل معهم ودحرهم، وانطلق رذاذ الإعلام المصرى يتهم إثيوبيا، عن غير حق، ولم نقدر لرجال الأمن هناك دورهم، ولا قدرنا أنهم كذلك تعرضوا لغدر واقتحام الإرهابيين، المهم أن مبارك تكونت لديه - فيما يبدو - عقد نفسية من إفريقيا عمومًا وإثيوبيا تحديدًا، فلم يزرها، ولم يهتم حتى بأمور المجاملات الدبلوماسية البسيطة، ثم حدث فى أواخر سنوات مبارك أن حاولت الوزيرة فايزة أبو النجا فتح صفحة جديدة مع إثيوبيا باستيراد لحوم من هناك، عبر السودان، وكادت المحاولة تنجح لولا أن وزراء الفساد وأباطرة استيراد اللحوم من أوروبا أجهضوا المحاولة، وهكذا من أجل حفنة من ملايين الدولارات أساءوا إلى العلاقات بين البلدين، ولما قامت ثورة 25 يناير، كانت الأجواء هناك غير ودودة معنا ثم جاء انشغالنا بالثورة فشرعوا فى إقامة سد النهضة، ولكن يجب القول أن الفكرة قديمة لديهم، تعود إلى مطلع هذا القرن، ونحن لم نتعامل بجدية مع الأمر، حتى جاء محمد مرسى فكانت الكارثة الكبرى، بالجلسة الفاضحة التى عقدها هو ومستشاروه السياسيون، ومعه مستشارته السياسية، والمؤسف أنها أستاذ العلوم السياسية.
وهكذا كان على الرئيس السيسى أن يقفز على كل هذا العفن فى العلاقات المصرية - الإثيوبية، وأن يجعلنا نتجاوز عقود أربعة من الأخطاء والخطايا السياسية، وقبل شهور زارنا فى القاهرة وفد إثيوبى رفيع، ضم رئيس البرلمان وعددًا من أعضاء البرلمان، والكتاب والشخصيات العامة، وشرفت بلقائهم فى زيارة إلى عدد من المواقع الثقافية، والحق أن لديهم إكبارًا عميقًا وتقديرًا لمصر وللمصريين، ولم أجد لدى أى منهم ضغينة، صغيرة أو كبيرة، نفوس صافية وصادقة بحق، وقد أكمل الرئيس السيسى المهمة بهذه الزيارة التاريخية بحق، ويكفى كلمات الاستقبال التى استقبل بها وأن يحتفى به فى البرلمان الإثيوبى.
والحق أن زيارته إلى إثيوبيا حدث مهم، وتستحق الاهتمام عالميًا، لكن الشئون الإفريقية لا تجد اهتمامًا كبيرًا لدى العالم، هذه الزيارة يمكن أن نقارنها بزيارة السادات للقدس سنة 1977 مع فارق، أن إثيوبيا ليس بيننا وبينها عداء ولا حروب عسكرية، كما كان الحال مع إسرائيل، وفوق ذلك فإن إثيوبيا شديدة الأهمية لنا.
أما عن سد النهضة، فلا يجب أن نكون ضد تنمية ونهضة إثيوبيا، بل يجب أن نشجعها، لأن تقدم إثيوبيا ينعكس علينا نحن، على المدى البعيد، ما يهمنا أن مياه النيل الواردة إلينا لا تتأثر، وهناك تعهدات بذلك، على المستويين الدولى والإقليمى، والأهم أن هناك اتفاقًا مصريًا - إثيوبيًا على ذلك.
سوف يحاسب التاريخ حسابًا عسيرًا، أولئك الذين حاولوا إهداء جهود وبناء وتضحيات مصرية ممتدة لقرون من العلاقة والتعامل مع إفريقيا، أقصد السادات ومبارك ومرسى، هؤلاء كان رهانهم على الولايات المتحدة، وصحيح أن علاقتنا بالغرب وأمريكا مهمة، لكنها لا تفوق علاقتنا بإفريقيا ولا يجوز أن نضحى بها.
فتح السيسى صفحة جديدة مع إثيوبيا، نتمنى أن تكون امتدادًا لتاريخ طويل وعميق بين البلدين، يعود إلى العصر الفرعونى ثم تعمق واتسع مع الحقبة القبطية، حيث ظلت الكنيسة الإثيوبية تابعة للكنيسة المصرية (كنيسة الإسكندرية) حتى مطلع السبعينيات من القرن الماضى، وكان بطريرك الإسكندرية هو الذى يقوم بترسيم بطريرك إثيوبيا، وتواصل التاريخ بيننا، حتى كانت الجملة الاعتراضية فى العلاقات بين البلدين والتى امتدت إلى أربعة عقود، منذ منتصف السبعينيات، إلى أن جاء السيسى رئيسًا، ليعود بالعلاقة مع إثيوبيا ومع دول حوض النيل إلى ما يجب أن تكون عليه من تفاهم وتعاون.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف