البديل
محمد أحمد القشلان
لماذا لم تنهض مصر؟
رغم ما بمصر من خيرات عظيمة، وثروات جسيمة، وحضارة لا مثيل لها مذ خلق الله الأرض، وموقع يجذب عظام الدول؛ للتحالف معها ومساندتها، إلا أنها ما نهضت، ولم تنهض.

فما العلة الآن؟ وما الذي يحول بينها وبين الرقي والازدهار في مختلف مجالاتها؟
الأمر جلي لكل من أراد أن يرى، وهو عدم إنزال كل شيء منزله، أي إسناد الأمور لغير أهلها، لا سيما أمر الجيش، الذي يعد عماد كل دولة وحصن كل بلد، والذي تستطيع الدول من خلاله القيام بدورها في مختلف المجالات، إذا كان يعرف ما له وما عليه، لكنه يصبح نكالا بكل بلد عندما يترك ثكناته ومهامه على حدوده وينخرط في الأمور المدنية، التي بدورها لا تعود بعائد إلا له، سواء كان هذا العائد سياسيا أو صناعيا اقتصاديا.

وهذا يؤدي بدوره إلى انقسام داخلي خفي بين صفوفه، وهذا واضح مذ أسسه محمد علي باشا، مؤسس مصر الحديثة، ففي الجيش المصري ليس كل الضباط سواء، بل تدخل في ذلك المحسوبية وطول باع كل ضابط فيه من خلال أبائه، فقد ظهرت العنصرية في الجيش منذ تأسيسه؛ لأن من كان من الضباط العرب المصريين الأصليين تقلدوا رتبًا متوسطة ودنيّا، وضباط الشراكسة والأتراك هم الذين تقلَّدوا الرتب العليا، كما شكَّلَ الفلاحون المصريون الأغلبية الساحقة من المجندين، ومن ثم استمر هذا الشرخ في الجيش المصري، وإن كان قد تغير الجنس من شراكسة وأتراك وحل محله أولاد الضباط الكبار لتستمر هذه البذرة وتصل ذروتها في عهد مبارك، الذي كان عامله الأساسي لضمان ولاء الضباط له ـ خلال رسوخه الطويل على كرسي الحكم ـ هو أن يمنحهم سلطات واستقلالات في إنشاء المجمعات العسكرية الصناعية وتشغيلها؛ وهو جهاز يدر الكثير لهم، وعلاوة على ذلك، أنشأ الجيش نشاطات تجارية ليس لها علاقة بالدفاع، ويعتبر هذا المجمع في مصر مؤسسة تجارية هائلة يديرها الجيش، وتنتشر في كل زاوية من زوايا المجتمع المصري؛ إذ تنتج المواد الغذائية، مثل زيت الزيتون، والمكرونة، والحليب، والخبز، والمياه المعدنية، وغيرها مثل الإسمنت، والبنزين، بالإضافة إلى المرافق الأساسية، وغالبًا ما يعمل المجندون أثناء الخدمة العسكرية في البناء والزراعة، والأكثر جرما من ذلك، هؤلاء الجنود الذي يكون واجبهم تجاه الوطن أن يكونوا خدما عند كبار الضباط وعائلاتهم، هذا غير أن الضباط يملكون مساحات شاسعة من الأراضي العامة، التي يتم تحويلها ـ في أغلب الأوقات ـ إلى تجمعات مغلقة كمنتجعات.

وهنا تيقن كثير من كبار الضباط بأن الوعود بموقع مُدِرٍّ في المستقبل كان حافزا كافيا للضباط الصغار كي يثابروا كخدم يشعرون بالواجب تجاه النظام، ولم ينشأ الضباط على أي التزام بنظام من المعتقدات أو القيم على غرار الجيوش الأخرى، ثم تبين أن هذا القول ضرب من الوهم؛ لأن الجيش المصري ضخم ومُثقل بالضباط؛ وبالتالي فإن الفوز بمكان مميز بعد التقاعد ضئيل، فهناك الكثير من الطامحين، لا سيما أن هذه الأوضاع المريحة اعتمدت على علاقات المحسوبية وصلات القرابة؛ فلم تأت هذه الفرصة لأي ضابط، ما لم يكن لديه علاقات مع شخص يعمل في باطن النظام، فوَلَّد فشلُ العديد من الضباط في الحصول على الجائزة الكبرى استياءً ضد أولئك الذين حصلوا على مكافآت، وضد الأغنياء الجدد الذين يسيطرون بدورهم على قطاعات حيوية من الاقتصاد.

فمن ثم توغلت الفردية في الجيش المصري، ليعمل كل ضابط فيه لنفسه ولا علاقة له بالدولة، في حين أن الاقتصاد يعتبر حكرا لهم، والدليل الأكبر على ذلك ثورة يناير التي لم تكن انتصارا للشعب، بقدر ما كانت انتصارا للجيش، الذي أصبح بارعا في التخطيط لنفسه والحفاظ على كيانه الاقتصادي، إذ كان يخشى اعتلاء جمال مبارك سدة الحكم، وظهر خوفه أكثر عندما أوشك مبارك على إنهاء فترته دون أيكون له نائبا، فعلم أن الأمر سيؤول لجمال مبارك هو وعصبته من رجال الأعمال، الذين سيؤدون إلى هزة اقتصادية عظيمة في اقتصاد الجيش، فهو على كل حال مدني ـ وإن كان أبوه عسكريا ـ هو ومن معه، فانصب تفكير الجيش في أمره من سيطرة واقتصاد، ولا نصيب للبلاد والشعب من تفكيرهم، فلما ثار الشعب كي يحسن من مستواه على اختلاف مناحيه، وقف الجيش جانبه وأظهر دوره البطولي، وشعاراته في حق المواطنين التي لا سبيل لها من الصحة، لكنه أظهر دهاءه تجاه البلاد، حيث علم أنه لا يصح له أن يرتقي سدة الحكم بعد هذا الثورة العارمة، بل عليه التدرج والحيطة، من خلال كسب فئة كبيرة من الشعب والجنوح الظاهري لجماعة الإخوان التي قامت بدورها على أكمل وجه؛ من خلال زعمه عدم المشاركة في انتخابات الرئاسة ثم نقضه للعهد، فاستطاع الجيش أن يضربهم ويضرب بهم التيار الإسلامي والمدني بعد عام من وصولهم للحكم، كي يعود الأمر لكرته الأولى ويستولى الجيش على الدولة من جديد، لكنه هذا المرة يحكم الشعب بقبضة حديدية لا يستطيع منها خلاصا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف