محمد جبريل
من المحرر .. الواقعية الروحية
كان اختيار جارثيا ماركيث بين الكتابة والموت. وقد اختار الكتابة.
روايات ماركيث لا تضم سطراً واحداً لا يستند إلي الواقع. الواقع لا يهبنا فحسب ما ألفت العين رؤيته. إنه يحفل بالكثير مما يبدو غرائبياً وغير مألوف. أذكرك بالرجل الذي أوقف تنفيذ حكم الإعدام فيه. بعد أن وضعت حول رقبته أنشوطة المشنقة!
حين أكتب عن شخصية ما غير موجودة في الواقع. فأنا ـ في الحقيقة ـ أكتب عن العديد من الشخصيات الموجودة في الواقع. الخيال المطلق يعني أن هذه الشخصية لا وجود لمثيل لها في الواقع. وأنها مخترعة تماماً. وهذا غير صحيح. لأن الفن يتحدث عن شخصيات تتكلم. وتصمت. وتحلم. وتتطلع. وتعاني الإحباط والعقد النفسية. وتنام. وتأكل. وتشرب. وتسير. وتمارس كل ما يفعله إنسان هذا العالم.
قد تبدي توصيفاً لمعني أو قضية فيها اختلاف. ثم تجد أن توصيفاً آخر لمحدثك ربما يكون أميل إلي الدقة.. إذا كنت مكابراً ـ لا قدر الله ـ فأنت تصر علي التوصيف الذي طرحته. أما إذا كنت مجتهداً. تشغلك الحقيقة في ذاتها. فلعلك تقول ببساطة: هذا ما أردت قوله.
أذكر أني وجدت في الواقعية الصوفية تعبيراً متماهياً. أو موازياً للواقعية السحرية التي توصف بها إبداعات جارثيا ماركيث وإيزابيل الليدني ويوسا وغيرهم من مبدعي أمريكا اللاتينية.
وجدت في الواقعية الصوفية معني أشد عمقاً للابداعات التي تستند إلي الموروث الشعبي. بداية بالميتافيزيقا. وانتهاء بالممارسات التي تنسب إلي الصوفية.
صديقي الدكتور شبل الكومي اقترح تسمية أخري هي الواقعية الروحية.. بدت لي تسمية أقرب إلي الدقة. بل هي ـ في قناعتي ـ صحيحة تماماً. الواقعية الصوفية تحصر الجو الابداعي في الممارسات الصوفية وحدها. في مكاشفات أولياء الله وكراماتهم. ما ينسب إلي السيد البدوي وأبي العباس والشافعي والرفاعي والشاذلي والحجاجي والعدوي وديوان أم العواجز من خوارق ومعجزات. وما ينسب إلي الفرق الصوفية بعامة من إجراءات وطقوس. أما الروحية فهي تهب دلالة أكثر رحابة. وأشد تحديداً في الوقت نفسه.
مكاشفات وبركات الصوفية تتماهي مع بنية الواقعية السحرية. وتوظيف الفن للبعد الصوفي ليس لمجرد ما يحمله من خوارق ومعجزات. لكنه يصدر عن فلسفة حياة تشمل الميتافيزيقا وعلم الجمال والهموم الآتية من سياسة وتاريخ وعلم اجتماع وعلم نفس وغيرها.
الصلة موجودة بين الفن السوريالي والأدب الصوفي. وبقدر التأكيد علي وحدة الفنون. فإن الصلة موجودة كذلك بين الأدب الصوفي وما يسمي الواقعية السحرية. وجه العملة الآخر للفن السوريالي. والتيار الفني الذي حققت الرواية في أمريكا اللاتينية من خلاله تفوقاً لافتاً.
لكن بعض دارسي الواقعية السحرية يرفضون أن تجد تماهياً. أو حتي مشابهة. مع الموروث الديني أو الشعبي بعيداً عن الإنثربولوجيا علي المستوي الإنساني في ذكرياتها "بلدي المخترع" تؤكد إيزابيل الليندي أن أدوات الإدراك مثل الغريزة والخيال والأحلام والعواطف والحدس. أدخلتها في الواقعية السحرية قبل أن تظهر موضة ما سمي بانفجار أدب أمريكا اللاتينية بكثير. وقد عاب ماركيث علي واقعية الأجيال الحالية ـ والتعبير له ـ غياب البساط الذي يمكنه أن يطير فوق المدن والجبال. والعبد الذي يظل داخل الزجاجة مائتي عام. قبل أن يتاح له الخروج إلي العالم.
وثمة النظرة إلي الموت والموتي. إنها تكوين مهم في موروثنا الشعبي بكل ما يحفل به من معتقدات وممارسات وعادات وتقاليد.. نحن نؤمن بالخلود. وأن الموت انتقال من حال إلي حال. لذلك يأتي انشغالنا ببيت الآخرة. مقابلاً لإهمال بيت الدنيا. تدلنا الحفائر والتنقيبات علي آثار تتصل بالعالم الآخر: الأهرامات. مصاطب المقابر. الأجساد المحنطة. الأوشابتي. إلخ. لكننا لا نجد أي أثر لبيت الدنيا. البيوت التي كان يعيش فيها قدامي المصريين.
باختصار فإن الروحية هي التعبير العلمي والموضوعي لإبداعاتنا التي تنظر إلي الضفة الأخري. أو تحاول أن تنتقل إليها.