التحرير
شعبان يوسف
جوبلز.. الشاعر والمسرحي ووزير الدعاية النازي
للأسف يتم فى التاريخ السياسى والثقافى والفكرى والاجتماعى، اختصار بعض الشخصيات فى حدث طارئ، أو مقولة مخترعة لا نجد توثيقا لها، وغالبا ما تكون غير حقيقية، أو أنها منتزعة من سياقها الطبيعى، ويتم تبعًا لذلك تصوير هذه الشخصية على نحو مضلل، أو غير دقيق، أو ناقص تماما، وهكذا يحدث التشويه والتضليل والتزييف، وربما يحدث ذلك عفوا، أو لاسترخاء وكسل عقلى، أو ربما يكون عمدا، لمكاسب سياسية لحساب مروجى الأكاذيب والادعاءات أو ما شابه.

ولم يتم اختصار شخصية تاريخية وتشويهها واستدعائها لتمثيل الجهل والصلف والغرور، كما حدث لجوزيف جوبلز، وزير الدعاية الألمانى فى ظل ألمانيا النازية، والذى لعب دورا خطيرا جدا فى توجيه الأحداث، وتشكيل خارطة جديدة للعالم فى المرحلة التى تقع منذ النصف الثانى فى القرن العشرين، حتى زوال القادة النازيين فى عام 1945، بعد انتحار هتلر، ثم انتحاره هو، وقد كان أكبر داعية نازى، ولم يضارعه أحد بشكل مطلق فى الترويج للفكر النازى، سوى هتلر نفسه زعيم النازية الأول فى التاريخ.

أما المقولة التى تم اختصار جوبلز على أساسها، فهذه الجملة التى يرددها كثيرون على لسانه، وهى التى يقول فيها -حسب الزاعمين: «عندما أسمع كلمة ثقافة.. أتحسس مسدسى»، وفى زعم آخر يستبدلون مفردة «مثقف» بـ«ثقافة».

وأنا شخصيا لم أتحقق من السياق الذى جاءت فيه الجملة، ولا الظرف التاريخى الذى قيلت فيه، ولا الزمن الذى ترددت فيه هذه المقولة، هل قالها بعد انخراطه فى العمل السياسى مع الزعيم النازى هتلر، أم أنه قالها قبل الانحياز إليه، وذلك قبل الأعوام العشرين التى رافقه فيها، وكان فى ذلك الوقت عدوًّا لدودا له، ولا يتوقف عن الهجوم عليه وعلى سياسته، قبل أن يؤمن بأفكاره فجأة، ويجنّد كل مواهبه للدعاية لها، والدفاع عنها، وارتكاب كل الأخطاء من أجل ذلك.

ورغم أن هذه المقولة لم يكن لها أى وزن فى تاريخ جوزيف جوبلز، فإننا نجدها هى المقولة الأكثر رواجا وتسويقا، وبالتأكيد يعود هذا إلى الدعاية السوفييتية المضادة فى تلك الفترة، التى انهزمت فيها النازية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، وصمود الاتحاد السوفييتى بقيادة الزعيم السوفييتى جوزيف ستالين، وبطولة شعب ستاليننجراد عام 1945، ويقال إن السوفييت استولوا على كل مذكرات ويوميات وأوراق القادة النازيين، وعبثوا فيها، ونشروها على هذه الأنحاء المشوهة.

ومن بين هذه الأوراق، كانت يوميات جوبلز العديدة، ولم تنجُ من هذا السطو بشكل مذهل، سوى يومياته التى كتبها فى عامى 1925 و1926، وهى الفترة التى انضم فيها -حديثا- إلى الدعاية النازية، وأعجب به هتلر إعجابا شديدا، وأرسله إلى برلين لاستعادة ثبات وشتات الحزب النازى هناك، وكان جوبلز فى تلك الفترة متأثرًا بصديق له، كان مثقفا رفيع المستوى وعارفا بالفلسفات وأدبيات الشعوب الأخرى، هذا الصديق هو الذى علّم جوبلز قراءة ديستوفيسكى وكارل ماركس وفريدريك إنجلز، ورغم استغراق جوبلز فى قراءاته لهؤلاء الكبار، فإنه انحاز إلى ما كان يسمى الاشتراكية الوطنية الألمانية، أى ما يشبه «الاشتراكية العربية»، ودوما ما نجد مثل هذه التسميات العجيبة فى مراحل ما من التاريخ.

كان جوبلز فى تلك الفترة يكتب الشعر والمسرح، وكان حاصلًا على درجة الدكتوراه فى نوفمبر عام 1921 التى قدمها بعنوان «ويلهلم شوتز.. إسهام فى تاريخ المسرح الإبداعى الرومانطيقى»، وكان يكتب مقالات أدبية وفنية فى الصحف الألمانية، ولكنه لم يحظ برواج أدبى، رغم أنه كان كارها للسياسة تماما، هذا المجال الذى انجرف إليه بقوة بعد ذلك، وأصبح داهية فى ما بعد لمدة عقدين من الزمان، عملا على تشكيل العالم بدرجات خطيرة، وتم فى هذين العقيد بروز وزوال أفكار ونظريات وفلسفات خطيرة.

وبالطبع لا يستطيع أحد نفى أن جوبلز كان عبقريا بامتياز، ولكن عبقريته هذه كانت تنتمى إلى الشر من وجهة نظر التاريخ، هذا التاريخ الذى يرويه دوما هؤلاء المنتصرون، والقائمون على توجيه الأحداث والتدوين والتأريخ، هؤلاء المنتصرون الذين «يمتطون» السلطة بضراوة، ويحركون الأدمغة الفاعلة فى الجامعات والمعاهد ومراكز البحث. وعلى البشرية أن تنتظر مئات السنين حتى تتضح الحقائق الغائبة، والمغيّبة، والتائهة.

وفى اليوميات التى نجت من أيدى السوفييت، وبالتالى نجت من التشويه، هذه اليوميات التى أعدّها هلمت هايبر، ونقلها إلى العربية خيرى حماد، ونشرتها الدار القومية للطباعة والنشر عام 1963، وفيها نستطيع أن نتعرّف على هذا العبقرى الذى حرَّك ووجَّه الأحداث فى ألمانيا النازية، وكان النصير الأبرز للزعيم النازى أدولف هتلر، والذى أعاد قوام وثبات الحزب النازى فى برلين، بعد أن كان بضع شراذم لا تشكّل سوى تجمع منفرط وبائس.

فى اليوميات يكتب جوبلز عن نزواته وعحيبياته، وعشقه للأدب والمسرح، وعلاقاته مع الأهل والأصدقاء، وفى 3 أبريل عام 1926 يكتب عن حديث تم بينه وبين أحد أصدقائه، وعن حبيبته إيلزى، وعن ذهابه إلى دويسبرج لقضاء عيد الفصح: «أنا على وشك الذهاب إلى البيت.. وداعًا.. سأعود فى اليوم الثانى من العيد.. أنا سعيد لرؤية أمى، وماريا، وأبى، وإليزابيث»، هذه المشاعر التى سجّلها جوبلز فى يومياته، لم يقترب منها مؤرخوه بشكل كاف، ولم يدرسوها، ولم يضعها واحد منهم محل الفحص والتحليل، ولكن بعضهم توقف عند العاهة التى تتعلق بعرجه الحاد، وتشوه جسمه، مما أدّى إلى تحوله إلى شخص ناقم على البشرية، وهذا ما نختلف معه، فجوبلز كان مقتنعا ومخلصا لبلاده، وكان مثقفا بطريقته، وهذا الإخلاص هو الذى جعل هتلر يرشحه للنظام الذى سيليه، ولكن جوبلز آثر أن ينهى حياته بعد انتحار زعيمه، وقبل أن ينتحر قتل أبناءه دون هوادة، وقتل زوجته، ثم أطلق على نفسه الرصاص، حتى لا تعيش ويعيش أبناؤه فى ظل نظام يكرهه.

إننى لا أريد سوى قراءة التاريخ باستفاضة ودقة وتروٍّ، فالتاريخ فيه الكثير مما يُروى، بعيدا عن «الإفيهات»، التى يتناقلها البشر جيلا بعد جيل.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف