التحرير
نبيل عمر
أمةٌ ترقص!
جلستُ أمام برنامج «الرقص مع النجوم» بالمصادفة، فكل الموجودين كانوا يشاهدون ويتابعون باهتمام، وكانت الإنفلونزا قد حلَّت، وهى دوما تزورنى دون انقطاع فى كل التحولات الفصلية، ولم يكن أمامى أى مهرب، وجلست واستمتعت جدا، فالراقصون المحترفون يعلّمون «النجوم الضيوف» بمنتهى الجدية والانضباط، ولجنة التحكيم فى غاية الدقة فى رصد كل حركة وإيماءة ودوران وقفز وخفة.. وصفَّقت وهلَّلت، لكن شيطان الأسئلة لم يتركنى أستمتع دون أن ينغصّ علىّ، وزنّ فى رأسى ولا أرذل ذبابة جبلية يمكن أن تحطّ عليك: ولماذا لا نتقن أعمالنا كما نحاول أن نتقن الرقص؟!

وليت شيطان الأسئلة توقف عند هذا السؤال الخبيث، ولكنه أمسك بى من عنقى وأدار رأسى، وراح يستعرض برامج الترفيه، وأغلبها مسابقات رقص وغناء وألعاب، هل تقدُّم أمتنا مرتبط بأن نعيد اكتشاف مواهبنا وإمكاناتنا فى فنون الرقص والغناء، ونبتكر عشرة أو عشرين برنامجا لها؟ يعنى لو ارتفع عدد الراقصات والراقصين إلى مئة ألف مثلًا هل سيتغير واقعنا؟! ولو نصف الأمة أتقن الغناء فهل هذا سيكون أول خطوة فى رحلة التخلص من التخلف؟!

قطعًا الفنانون مشاعل على طريق أى أمة، والفن «عمود» أساسى فى نهضة أى شعب، ولا فرصة للتقدم دون إحداث نقلة ثقافية تغيّر نمط العقل وأساليب التفكير، هكذا صنعت أوروبا حضارتها الحديثة بعصر النهضة، لكن هل ينكر أحد العقل العلمى الذى وقف جنبا إلى جنب الفنون، والعبقرى ليوناردو دافنشى نموذج، فلم يكن فنانا فقط، وليست «موناليزا» هى أهم إبداعاته وإن كانت أشهرها، بل كان عالما فذًّا وله إسهامات هائلة وله رسومات لأشكال هندسية تحققت بعد بسنوات طويلة!

والعالم الغربى تعلم ودرس وعمل وابتكر وجاهد وتعب وثابر قبل أن يصل إلى هذا القدر الكبير من «الترفيه»، أى حقق قدرًا من التقدم والثروة والتحضر تتيح له وقتا هائلا للترفيه!

لكن فى بلادنا نقلد الغرب فى الترفيه، قبل أن نقلده فى المعرفة، نقلد برامجه فى اكتشاف الراقصين والراقصات والمغنين، قبل أن نكتشف موهوبينا فى الرياضيات والكيمياء والعمارة والطب والفيزياء، جرينا بأقصى سرعة إلى الترفيه، قبل أن نتعب ونعمل ونبتكر، رحنا نرقص ونغنى، بينما نحن فى آخر طابور الأمم المتقدمة!

وتخيلوا أن أى عضو فى لجنة تحكيم رقص أو غناء أو مذيع فى برنامج ترفيه يأخذ فى الحلقة الواحدة أكثر من مئة ضعف مرتب أهم باحث فى علوم الذرة أو الكمبيوتر فى أى معهد علمى فى الشهر، وقد قابلت الأديب الرائع يوسف إدريس عقب نجاح مصر فى التأهل لنهائيات كأس العالم فى عام ١٩٩٠، وقال لى متحسرا: ضربة رأس حسام حسن بكفاح توفيق الحكيم وطه حسين ونجيب محفوظ مجتمعين!

باختصار لسنا ضد الترفيه فنيا أو رياضيا، لكن يستحيل أن نضعه فى أولويات حياتنا، ونهمل التعليم والمعرفة، وتتحول كل شاشات الفضائيات إلى «مخدرات مرئية» بينما نحن فى أشد الحاجة إلى عقول يقظة واعية.

باختصار نحن مجتمع يمشى على رأسه ويفكر بقدميه وحنجرته وهز وسطه، والبركة فى وكالات الإعلانات!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف