المساء
محمد جبريل
من المحرر .. في حضرة الإبداع
أحمل أجندة سنوية تاريخها 1980. اعتدت تسجيل ملاحظاتي. والأفكار التي تواتيني. وما أتصوره ثيمات إبداعية. مجرد كلمات قليلة. أفيد منها في التذكر. قدرتي مذهلة في النسيان. أدير قرص الهاتف. وأنسي من كنت أطلبه. لو اني أهملت العودة إلي الأجندة في أوقات متقاربة. ربما نسيت ما سجلته. وربما وجدت في عودتي إلي الفكرة ما يرغبني عنها. وإني الشخص غير المناسب لكتابتها.
تمنيت ــــ ذات يوم ــــ أن أتخذ القرار نفسه الذي اتخذه همنجواي بأن يكتب قصة عن كل شئ عرفه. وقصة عن كل شئ يعرفه. لكن الأمنية ظلت في إطارها. لا تجاوزه.
حتي الآن. فإن لدي الكثير الذي أريد أن أقوله: أفكار هلامية. وضبابية. وواضحة. ما يدخل في إطار الإبداع. وما يقترب من التنظير. وما لا يجاوز حد القراءة الإيجابية.
أنا أكتب ما يلح علي. ما يفرض نفسه. أكتب وأكتب وأكتب. لا أخطط لشئ. وقد تخطر علي بالي أفكار تبدو فناً جميلاً. وحين أبدأ في تسجيلها علي الورق. تتحول إلي ملامح باهتة أو فاقدة المعني.
أذكر ان مجرد الكلمة "جدتي" كانت هي المدخل إلي نقطة الختام في أكثر من قصة لي. كان الذهن يخلو من معني محدد. وحين بدأت الكتابة تخلقت الشخصيات والأحداث بما شكل عملاً إبداعياً. وأحياناً فإني أبدأ في كتابة عمل بتصور البداية والنهاية. لكن جريان القلم علي الورق يتعثر بعد الأسطر الأولي. ثم يتوقف تماماً. وأتبين عبثية ما أكتبه. فأحتفظ بالأسطر القليلة لنفسي. أو أمزقها. كأنها لم تكن.
القول بأن الكلمة الأولي في "النص" يجب أن تُكتب وعين الفنان علي النهاية. يحتاج ـــ بالنسبة لي في الأقل ـــ إلي مراجعة. ذلك لأني أحرص أن يكتب العمل الإبداعي نفسه. بصرف النظر عن نوع ذلك العمل.
لعلي أذكرك بأن مبعث إقدام فوكنر علي كتابة روايته "الصخب والعنف" رؤيته ــــ وهو يقوود سيارته في الجنوب الأمريكي ــــ فتاة صغيرة تركب مرجيحة في حديقة بيتها. وكتب جارثيا ماركيث قصته "قيلولة الثلاثاء" بعد أن شاهد سيدة وطفلة يرتديان ثياباً سوداء. وتحمل كل منهما مظلة سوداء. وتسيران في الصحراء تحت شمس لاهبة.
تبينت ـــ بعد اتساع قراءاتي وخبراتي ومخاطبتي للآخرين ـــ اني أستطيع الكتابة دون إعداد. دون نقاط مسبقة.
أنا لا أضع ملفات مثلما كان يفعل نجيب محفوظ ــــ علي سبيل المثال ــــ وما يفعله أدباء آخرون. لورانس بلوك يلح في ضرورة التخطيط للرواية. قبل أن يبدأ الفنان كتابتها. وأن تنمو ـــ طيلة كتابة المؤلف لها "كما تنمو الحبكة". لكنه يدعو ـــ أيضاً ـــ لأن تنمو الرواية نمواً طبيعياً من واقع ما يكتب. بدلاً من ارتباطها ببيئة هيكلية. "مثل من ينصب تعريشة لأجمل الورد البلدي".
لا أضع ــــ في الوقت نفسه ــــ مخططاً عاماً. لا أرسم الملامح الظاهرة أو الجوانية للشخصيات. ولا أتقصي ماضيها. ولا أخطط للأحداث التي أضمنها السرد. ولا حتي التقنية التي ربما ألجأ اليها. وما إذا كنت سأكتب بصوت الكاتب الذي يعرف كل شئ. أم بصوت الراوي المخاطب. أم الراوي المشارك. أم أكتب بصوت الجماعة. أم ألجأ إلي تقنية تعدد الأصوات. أم ألجأ إلي المونولوج الداخلي؟.
أحياناً يعروني قلق أو خوف. وأنا أفكر في الحرف الأول. الكلمة الأولي. الجملة الأولي. أعاني التوتر والارتباك والشرود. يجري القلم بالسطر الأول. فتغيب كل تلك المشاعر. بل اني أسلم مشاعري وقلمي للعمل الذي أكتبه. يتخلق من داخله الشخصيات والأحداث. حتي يكتمل في صورته النهائية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف