لجدل الدائر حالياً حول التغييرات المفاجئة في المناهج الدراسية ليس الأول من نوعه ولن يكون الأخير.. فقد اعتدنا علي هذا الصخب ــ أو قل الشغب ــ الذي يتعمده البعض تجاه المناهج الدراسية لاستخدامها وسيلة في التأثير السياسي أو إخضاعها للتعبير عن وجهة النظر السائدة.. خصوصاً مراحل التفاعل والتحولات الكبري.
قالوا لنا من قبل إن عبدالناصر استخدم المناهج الدراسية ليقول إن تاريخ مصر بدأ معه.. وليمحو أي مجد أو إنجاز للمرحلة الملكية.. وزعم أنه أول رئيس للجمهورية حتي لا يكون هناك أي ذكر لمحمد نجيب أول رئيس فعلي للجمهورية.. ثم جاء السادات ليرفع من شأن ثورة التصحيح علي حساب ثورة يوليو.. وليتحول لقب عبدالناصر من الزعيم الخالد إلي الرئيس الراحل.. وليبدأ التاريخ معه من نصر أكتوبر في مرحلة.. وفي مرحلة أخري من كامب ديفيد ومبادرة السلام.
ومع مبارك بدأ التاريخ مع الضربة الجوية الأولي التي غطت حتي علي نصر أكتوبر المجيد.. ثم كان المجد الأكبر بعودة طابا.. واستأثر مبارك لنفسه بهالات النصر دون بقية القادة العظام الذين حققوا المعجزة.. ثم جاءت الردة بعد ثورة 25 يناير حيث علت بعض الأصوات مطالبة برفع اسم مبارك من تاريخ مصر أو تناوله باعتباره "خائناً".. والحمد لله أن ذلك لم يحدث.. ولكن اكتفي واضعو المناهج بأن يكون لمبارك وأعوامه الثلاثين في الحكم مجرد سطر أو سطرين.
وفي السنوات الأربع الماضية دخلت تقلبات كثيرة علي المناهج فيما يتعلق بدور الإخوان وتمرد.. وصاحب ذلك بالطبع جدل واسع بين مؤيدين ومعارضين.. وصارت المناهج الدراسية مادة ثرية للصخب والشغب في برامج التوك شو.
وسواء أكان الأمر يتعلق باللعب بالمناهج أو اللعب في المناهج فالنتيجة وحدة.. وهي أن مناهجنا الدراسية غير ثابتة وغير مستقرة.. والمسألة هنا لا تتعلق بالخبراء وواضعي المناهج من المتخصصين فقط وإنما تتعلق بالدور التحريضي الذي يقوم به البعض لإقحام المناهج الدراسية ــ كما قلت ــ في الجدل السياسي الدائر واستخدام المناهج وسيلة في التأثير والتفاعل دون إدراك لما يحدثه ذلك من انطباعات سلبية علي أبنائنا الطلبة وعلي المدرسين وأولياء الأمور وكل من له علاقة بالعملية التعليمية.
مؤخراً.. ثارت ضجة كبري حول كتاب "نهاية الصقور" حيث تضمن منهج اللغة العربية للصف الثالث الابتدائي درساً بعنوان "الطيور في خطر" جاء فيه أن الطيور قامت بإغلاق الخيام وأشعلت النيران في الصقور حسب الخطة.. وبعد اكتمال النصر أنشدت العصافير بلادي بلادي.. وتم تأويل هذه الحكاية واعتبارها حكاية رمزية لإعطائها أبعاداً سياسية وأمنية علي طريقة "أبلة فاهيتا".. وبسرعة تم إلغاء الكتاب وحذفه من المنهج.
ثم اتسعت دائرة الحذف لتشمل درساً عن صلاح الدين الأيوبي وبعض الصفحات في قصة عقبة بن نافع تتعلق بالجهاد والفتوحات.. إلي جانب بعض الآيات القرآنية التي قيل إن رفعها من المنهج جاء للتخفيف علي التلاميذ.
المشكلة أن عمليات الحذف هذه حدثت تحت ضغط وتحريض إعلامي.. وأعطت انطباعات سلبية.. وربما عكسية تماماً.. وقد كان من الممكن أن يتم الحذف والإضافة بصورة علمية.. وفي ضوء رؤية تربوية شاملة ومتكاملة في مناهج العام الجديد.. تجنباً لرد الفعل المعاكس.
في أوروبا والدول المتقدمة لا يتم اللعب في المناهج وفقاً للأهواء ولا حتي لضغط الرأي العام.. وإنما يجري وضع استراتيجيات تعليمية وتربوية مستقرة ومدروسة.. وبناء علي هذه الاستراتيجيات تأتي المناهج التي تحققها.
العبث في المناهج يخلق أجيالاً تائهة مشوشة سطحية.. فهل نحن نريد ذلك؟!