الأخبار
عبد القادر شهيب
جلد الذات المصرية
في صباح يوم الأحد الماضي شاهدت وأنا أسير في شارع الشانزليزية الشهير بباريس شخصا واقفا يعلق علي صدره اعلانا بما في حوزته من تذاكر المباراة النهائية في كأس أوروبا بين فرنسا والبرتغال التي أقيمت مساء ذات اليوم يعرضها للبيع بأسعار مرتفعة بالطبع، وعلي بعد أمتار منه تواجدت أعداد من أفراد الشرطة الذين نشرتهم الحكومة الفرنسية في شتي انحاء باريس بكثافة ظاهرة للعيان.. ومع ذلك كانت فرنسا كلها بما فيها اعلامها تتأهب لهذه المباراة، أملا في الفوز بكأس أوروبا، ولم نجد أحدا يندد بالسوق السوداء لتذاكر تلك المباراة المرتقبة المهمة، أو يهاجم السلطات الفرنسية سواء علي وجود سوق سوداء لتذاكر المباراة النهائية، أو لنشر قوات الأمن بهذه الكثافة ومنع ايقاف «وركن» السيارات في بعض الشوارع ثم اغلاق شارع الشانزليزية امام مرور السيارات علي غرار ما يحدث مرتين كل عام، مرة في العيد الوطني الفرنسي منتصف يوليو، ومرة أخري في ليلة رأس السنة احتفالا بقدوم العام الجديد.
وحتي بعد أن اخفق المنتخب الفرنسي في الفوز بالكأس الاوروبية لم يولول الاعلام الفرنسي حزنا علي ذلك، أو يخرج الإعلام ليصور ما حدث وكأنه بمثابة كارثةو طنية ألمت بفرنسا في وقت عصيب، ولم تنطلق سهام النقد لمن يديرون شئون فرنسا، رغم أن فرنسا حكومة وشعبا كانت تعول كثيرا علي هذا الفوز الرياضي لاعتبارات غير رياضية وذات طبيعة سياسية، في ظل ما شهدته فرنسا من عمليات ارهابية قبل شهور مضت، كما كانت الحكومة الفرنسية تأمل أن يكتمل نجاحها في تأمين البطولة التي استضافتها بالفوز بالطبع بالكأس الاوروبية، خاصة أن هذه الآمال انتعشت كثيرا بعد تجاوز المنتخب الفرنسي العقبة الألمانية في الدور قبل النهائي.
لم نجد في فرنسا من يستنكر انتشار قوات الأمن بل وقوات الجيش بكثافة في شتي أنحاء باريس لتأمينها خلال أيام البطولة، أو من يعتبر ذلك تغولا للمؤسسة الأمنية وتهديدا للديمقراطية الفرنسية ومن يعتبر نشر الحواجز الامنية في الشوارع والميادين اهدارا لحقوق الانسان كما لم نجد أحدا في فرنسا يهاجم الجماهير الفرنسية التي خرجت طوال يوم المباراة وقبل اجرائها تطوف شوارع باريس وهي تستخدم علي غرار ما يحدث عندنا نغير السيارات، وهو الأمر غير المألوف في الشوارع الفرنسية.. رغم ذلك لم يعتبر أحد في فرنسا ذلك انفلاتا اجتماعيا، أو تغيرا سيئا في اخلاقيات الشارع الفرنسي الذي يلتزم بالانضباط يستحق ان يقف امامه دارسو علم الاجتماع لبحثه ومناقشته والبحث عن أسبابه وعلاجه.. بل علي العكس فإن الشرطة الفرنسية كانت قد تأهبت قبلها بيوم لأن يفعل الفرنسيون ما هو أكثر من استخدام نفير السيارات اذا ما تحقق أملهم وفاز منتخبهم بالكأس الاوروبية، وذلك باللجوء إلي ممارسة بعض العنف وهم يعبرون عن فرحتهم، ولعل ذلك هو سبب الاغلاق المبكر لبعض المقاهي ليلة المباراة النهائية التي تحول فيها الحلم الفرنسي إلي كابوس.
باختصار لم يجلد الفرنسيون أنفسهم نتيجة لإخفاق منتخبهم في الفوز بكأس أوروبا، رغم أن فرنسا كانت قد تأهبت نفسيا للفوز بهذه الكأس علي اعتبار أن كفتهم علي مدي سنوات مضت كانت هي الارجح في المنافسات واللقاءات الكروية التي خاضوها مع البرتغال.. كما لم يجلد الفرنسيون انفسهم علي حالة الطوارئ الامنية التي عاشوها طوال أيام البطولة الاوروبية.
ولو كان ما شهدته باريس خاصة من كثافة التواجد الأمني و العسكري لكنا عشنا نوبة من نوبات جلد الذات اجترار الاحزان، ولكان صراخ وعويل الاعلام قد ارتفع لفترة ليست قصيرة من الوقت، ولكانت الاسقاطات السياسية قد استمرت في هذا الحدث الرياضي.. وهذا هو الفارق الواضح بيننا وبينهم.. انهم لا يجلدون ذاتهم، بينما نحن نتباري في جلد الذات وتحويل كل حدث نعيشه إلي بكائية يمكن استثمارها في أغراض الصراع السياسي الحاد الذي نعيشه منذ عدة سنوات مضت.. ولك الله يا مصر!

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف