فاتني أن أعرض هذا الكتاب في مجموعة الكتب التي قدمتها "المساء" خلال شهر رمضان المعظم.
قيمة الكتاب الذي وضعه محمد عمارة انه يتضمن آراء الاستاذ الإمام محمد عبده في موقف الإسلام من قضايا المرأة. والقيمة الأهم أنها صدرت في فترة باكرة من تاريخنا الحديث. وهي الفترة التي شهدت أواخر العصور العثمانية بكل ما فرضته علي الحياة المصرية - والعربية بعامة - من سلبيات.
عندما وضع أحمد أمين الاستاذ الإمام في مقدمة "زعماء الإصلاح في العصر الحديث". فلأنه مثل - باجتهاداته - جانبا مهما من فكر الاستنارة الذي أضاء الحياة الثقافية المصرية. وهو ما طالعنا في كتابات الطهطاوي والكواكبي وفرح أنطون وطه حسين وأمين الريحاني. ثم - في مرحلة تالية - المدرسة الحديثة بشعارها ذي الدلالة: نعم للأصالة والمعاصرة. لا للتقليد والمحاكاة.
كانت قضية الأسرة من أهم القضايا التي عني بها الإمام. كتب في 1881 عن حاجة الإنسان إلي الزواج. وعن حكم الشريعة في تعدد الزوجات. وحين تولي منصب مفتي الديار المصرية في 1899 تناول قضايا الأسرة في العديد من الفتاوي. واللافت في تلك الفتاوي أنها لم تعالج القضايا والمشكلات بنظرة جزئية. لكنها نظرت إلي الأسرة كلبنة في بنيان الوطن. لابد من مداواة جراحها إذا شئنا بنيانا قويا ينهض برسالته ويتحدي ما يحدق به من أخطار. وخالف الإمام ما ذهب إليه الكثير من الكتاب في عصره من إلقاء تبعة ما قد ينشأ من تفسخ أسري وعائلي علي عاتق المرأة. حدد أن العلة كامنة في الفهم الخاطئ لموقف الشريعة من علاقة الرجل بالمرأة ومن العلاقات الأسرية. ومن سيادة ذلك التطبيق الذي يحسبه الناس إسلاما. أو مستمدا من الإسلام. بل إن محمد عبده يري أن نظرة الرجل إلي المرأة. كما هي في الواقع. وكما تحددها بعض القوانين التي تنظم علاقتهما. إنما تعد عودة إلي الموقف الجاهلي الذي جاء الإسلام. فحرر المرأة منه. وأعطاها من الحقوق مثل ما للرجل.
إن المساواة التي قررها القرآن بين المرأة والرجل إنما هي عودة بالمجتمع. وارتقاء به. إلي الفطرة السليمة التي جعلها الخالق ميثاقا بين الجنسين. فتترك المرأة أهلها لتضع نفسها في رفقة إنسان جديد وغريب. تعطيه ما لم تعطه لأحد من الأهل الذين نشأت في أحضانهم. المساواة عودة إلي الأصل الفطري. فالحقوق بينهما متبادلة. والتماثل قائم - أو هذا ما يجب أن يكون - في الذات والاحساس والشعور والعقل. أما قول الله "وللرجال عليهن درجة" فهي تعني - في تفسير الإمام - القيادة التي لابد منها لأي مجتمع صغير أم كبير. كضرورة من ضرورات توزيع العمل بين البشر. وإذا كانت المؤهلات الفطرية والكسبية التي تميز الرجل عن المرأة. تجعل له الحق في التأديب - الذي هو من مهام الرياسة - دونها. فإن امتلاك المرأة هذه المؤهلات يلغي حصر هذا الحق من حقوق الرياسة فيه دونها. يتصل بذلك - طبعا - حق المرأة في التعليم. ولأن أبغض الحلال إلي الله الطلاق. فإن الإمام يطالب بأن يكون هذا "الحق" من اختصاص القضاء. أي ضرورة تقييد هذا الحق بالتحكيم. وجعل الحكمين والقاضي الذي يمثل ولي الأمر والدولة. ضوابط وصمامات أمن للأسرة. فلا تهدد بالانهيار.
أما تعدد الزوجات فإن الإمام يجهر بالفتوي: أباحت الشريعة المحمدية للرجل الاقتران بأربع نسوة إن علم من نفسه القدرة علي العدل بينهن. وإلا فلا يجوز الاقتران بغير واحدة. يضيف: إن إباحة تعدد الزوجات مضيقة. قد اشترط فيها ما يصعب تحققه. فكأنه نهي عن كثرة الأزواج. وانه يحرم علي من خاف عدم العدل أن يتزوج أكثر من واحدة.
ويفسر الإمام آيات من سورة البقرة - في ضوء العلاقات الزوجية في ذلك العصر - بأن الروابط الطبيعية في النكاح والصهر وسائر أنواع القرابة صارت في مصر أضعف منها في سائر البلاد. من نظر في أحوال المصريين. وتبين ما يجري بين الأزواج من المخاصمات والمنازعات والمضارات. وما يكيد بعضهم لبعض. يخيل إليهم أنهم ليسوا من أهل القرآن. بل يجدهم كأنهم لا شريعة لهم ولا دين.
إذا وضعنا هذه الكلمات. وآراء أخري كثيرة تضمنها هذا الكتاب المثير. في إطار الفترة التي صدر عنها. والظروف التي احاطت بها. أدركنا أن اجتهادات محمد فريد وجدي ومحمود شلتوت ومحمد الفحام وخالد محمد خالد وعبد العزيز كامل وغيرهم من علماء الأجيال التالية ليست إلا تواصلا وامتدادا لجيل الاستنارة الذي مثله - بجدارة - استاذنا الإمام محمد عبده.