البديل
جمال الجمل
فخامة الرئيس المنقوع
(1)

مياه كثيرة جرت في النهر خلال فترة توقفي عن الكتابة، لكنني استثمرت الفرصة وبصقت كل ما بفمي من ماء، حتى إذا عدت تمكنت من الكلام معكم بكل حرية دون عوائق أو حساسيات، ومثل أي لاعب يشاهد المباراة من خارج الملعب، كنت أشارك في الأحداث بذهني وأحيانا بحركات جسدي الانفعالية.. أصفع هذا، وأركل ذاك، فالفترة كانت موسما للمهانات والبلادة، لكنها في مجملها يمكن تلخيصها في عنوان مختصر، فكرت فيه كثيراً… عنوان من كلمتين فقط: “الهزيمة العميقة”.

(2)

في مثل هذه الأيام من ثلاث سنوات، استطبنا الحديث عن المخاطر الشديدة التي تهدد أمننا القومي، وتلقينا بنشوة الملهوف تقليد البيانات العسكرية القوية والمقتضبة، ثم تمادينا في الإعجاب بفكرة القائد مرفوع الرأس، الذي يقر بكل علانية أن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه، وبعد أيام خرجت الملايين لتفويض المقاتل بالحرب ضد الإرهاب والمخاطر التي تهدد أمننا القومي، ثم توالت المفاجآت المخيبة للأحلام والكاشفة للأوهام: لقد تبين للقاصي والداني أن القائد الذي نراهن عليه لتحقيق النصر، هو الممثل الرسمي لمرحلة: “الهزيمة العميقة”.

(3)

الهزيمة شر.. عار.. خزي، لكن “الهزيمة العميقة” تتجاوز ذلك إلى نوع من توهم النصر، والتبجح في اللغة، والتهليل للأفعال الصغيرة، وتبرير الخيبة في الداخل بمؤامرات الخارج، واتهام الشعب بالتقاعس عن العطاء وعدم القدرة على الصبر والتحمل.

“الهزيمة العميقة” التي أقصدها ليست إصابة فردية، ولا يعنيني أن أرصد سماتها في السيسي كشخص، لكنني أقصد الحالة المزرية التي وصل إليها نظام التبعية والانبطاح والانسحاق الذي تربى السيسي داخل أروقته، وتتطبع بطباعه، ولعب لصالحه بجدارة وامتثال، حتى لم نشعر بشخصيته متحررة من هيمنة هذا النظام، بل باعتبارها مجرد “ترس” في آلة شريرة عتيقة، لا تنتج إلا شراسة في الداخل، وخنوع أمام الخارج (أي خارج).. إن حالة النظام الحالي في “دولة الأشلاء” تجاوزت أي حديث سابق عن الهزيمة (نكبة، نكسة، ردة، اجتياح..إلخ) ووصلت إلى مرحلة التعايش السلمي مع الهزيمة وتقبلها برضا كأمر واقع، والتكيف الشديد في التعامل مع الأعداء باعتبارهم أسياد، يشرفنا أن نعمل في خدمتهم: “فهم منا.. ونحن منهم”..!!!



(4)

في مقال قديم قبل أن يعلن المشير عبد الفتاح السيسي ترشحه للرئاسة كتبت في 15 فبراير 2014 جانبا من السجال الذي كان يدور في الشارع: يترشح أو لا يترشح، متخيلاً أن أحدهم سألني:

* لماذا ترفض ترشح السيسي، خاصة وأن الضرورة تفرض ذلك؟

– لأنني أريد أن أثق فيه، وأصدق «بيان المبادئ» الذي أعلن فيه عن مسافة واضحة مع دوائر الحكم، وأن أمن الوطن أعز وأشرف عنده وعند المؤسسة العسكرية من الحكم.

* لكن الظروف تغيرت، وجموع الشعب تطالب به رئيسًا.. ألا يستجيب؟

– تقديري أنه «رجل استراتيجية» تربى على الانضباط وتقدير الموقف، وفي حال تغييره لموقفه، سيزرع في قلبي الشك تجاه هذه المميزات، وإذا كانت الظروف تغيرت، ولم يكن يضع ذلك في حسبانه، فكيف يكون «استراتيجيا»؟، وكيف يمكن أن يضع خارطة ناجحة لمستقبل يخطئ في تقديراته؟

* لكن معظم الجماهير تطالب به بشدة.. ألا تلاحظ ذلك؟

– ألاحظ، ويسعدني ميلاد بطل شعبي تلتف أحلام المصريين حوله.

* أنت تحيرني، فلماذا ترفض ترشحه؟

– لأن الجنرال يكون “قائداً صاحب قرار”، أما إذا تحول إلى «جندي» لا يملك كلمته، ويطيع أوامر “قائد آخر”، فهذا يعني أنني سأخسر صورة «القائد» لصالح «جندي اضطرته الظروف».. وسأخسر مع ذلك ثقتي في تقديراته للمستقبل، ونعود إلى عشوائية القرارات، وهشاشة الوعود التي لا يلتزم بها مسؤول، ونذهب لاستعادة «الرئيس الأب» الذي تتحرج الرعية من محاسبته على سياساته والتزاماته، وبما أنني أحترم السيسي تحت راية السياسة والوطنية والدور (لأن معرفتي به ليست معرفه شخصية)، لذلك فإن حكمي عليه ينبع من موقف، وأخشى أن تهتز صورته عندي عندما يتصرف عكس هذا الموقف.

* ما هو هذا الموقف؟

– انحيازه لثورة 25 يناير ومبادئها، وحمايته لحدود ومستقبل الوطن من الاستحواذ والتقسيم، وكل ما وصفه في بيانه بأنه «تهديد يعرض الأمن القومي المصري لخطر شديد»، فأنا أرى أن 30 يونيو هي امتداد وتمكين لثورة يناير، وليست «لعبة مخابراتية» لإعادة عجلة الزمن إلى الوراء وتمكين «نظام ساقط» من الحكم مرة أخرى، وهذا بصراحة شديدة ما ألمسه في بعض القطاعات المؤيدة للسيسي، وهذا لا يعيبه، لأن البطل لا يختار أنصاره، لكنه يعيبنا نحن لو أغمضنا أعيننا عنه.

(انتهى الاقتباس)



(5)

حاولت كثيراً بعد ذلك التماس فرص النجاح للسيسي من منطلق الحرص على الوطن في لحظة حرجة، فالتزمت بالنصح الصريح عن طريق النقد والتصحيح والتوضيح وتجنب النفاق والتبرير والتقرب، فليس من العدل ولا العقل أن أحارب مرشحا رفضت ترشحه، واختارته الأغلبية، طالما أن الخلاف في الفرعيات وليس في الثوابت الوطنية، لكن الرجل الذي حدثنا عن الحنو، رمى بمعارضيه في السجون بأسرع مما يتوقع أحد، وفرط في الأمن القومي، وتنازل (ليلاً) عن الموقع الاستراتيجي لجزيرتي تيران وصنافير بلا أي خطر شديد أو جديد، وزمجر في وجوهنا بكل صلف: “مش عاوز اسمع كلام في الموضوع ده تاني، وتطوع لتوسيع كامب ديفيد لصالح إسرائيل، وغازلها بالدفء والرخاء على الهواء بلا استحياء، ولم نلمس له حناناً إلا مع الأعداء، طويل البال مع أثيوبيا وحكام بلاد الرز ضيق الصدر معنا، لقد انكشفت خدعة البطل الحامي، لأنه لم يكن من الأصل بطلاً ولا منقذاً، ولا مشغولاً بفكرة الدفاع عن الأمن القومي، بل كان شخصاً منقوعاً حتى التشبع في زيت “الهزيمة العميقة”



(6)

لن أعيد عليكم تفاصيل ماحدث لنا و”فينا” في الفترة الأخيرة، فالأخبار والصور المتداولة لنتنياهو في افريقيا وشكري في القدس وفخامته في المعمورة، وغيرها بين أوروبا وأمريكا.. كلها مجرد أمثلة تؤكد لنا بشكل يومي حالة السلطة الساقطة التي تتلذذ بالمنافع الحرام لمرحلة “الهزيمة العميقة”.



(7)

حكمة الخروج:

اغضب، تشاءم، إلعن… لكن لا تيأس

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف