البداية كانت من أخبار انطلقت عبر وسائل الإعلام العالمية، تتحدث عن انقلاب الجيش فى تركيا على أردوغان، انطلقت الشاشات عبر كوكبة من المحللين، الذين اجتهدوا فى توصيف المشهد من خلال المتاح من معلومات لم تكن كافية فى تقديرى لرسم صورة دقيقة عما يجرى، ومن ثم بقيت الحيرة تسكن عقولنا لساعات.
وكشأن الحمى التى تجتاح مصر دائمًا فى أعقاب كل حادث عالمى أو إقليمى أو محلى، تبقى طريقة التناول والانحيازات هى التى تصنع فى النهاية طريقة التفاعل معها برشد أو برعونة، أو ربما بحقد أعمى على طريقة عواجيز الفرح، الذين يجلسون لانتقاد أى شىء وكل شىء انطلاقًا من أحوالهم المزرية والعاجزة.
فى مصر انقسمت الآراء إزاء الحدث بين ثلاثة مشاهد، صنع الأول حالة من الخوف لدى عناصر الإخوان فى تركيا أو أنصار الجماعة فى مصر خوفًا من مصير قادم وقاتم بالتأكيد، بينما ابتهج آخرون بما يجرى كما لو كان لسان حالهم يقول "مفيش حد أحسن من حد" سيحكم تركيا الجيش من جديد، وهذا هو أقوم سبيل فى هذه المنطقة من العالم التى لا يصلح لها سوى الحكم العسكرى نظرا لما تواجهه من تحديات وأيضا لضعف البديل المدنى وعدم قابلية شعوبها للديمقراطية، وهكذا سكنت ضمائرهم لهذا التفسير، وبدا أن الأحداث تصدق اجتهادهم، وذهب بعض الموتورين منهم على لسان كبيرهم أنه لا ينبغى لأحد أن يقول إن هذا انقلاب، إنها ثورة الجيش التركى العظيم على ديكتاتورية أردوغان.
هؤلاء يبدو موقفهم مفهومًا لدى الجميع وليس مفاجئًا بالطبع، أما العقلاء وهم قلة للأسف فقد تعاملوا مع احتمال نجاح الانقلاب بخوف مبرر، بالنظر الى وضع تركيا فى الإقليم متوجسين من فوضى عارمة ستضرب البلاد، واقتتال أهلى سينهى آخر صيغ الدول المتماسكة فى منطقتنا، لحساب فوضى لن تستفد منها سوى داعش والقاعدة وكل منظمات الجريمة، التى ستحيل الإقليم إلى جحيم حقيقى يستعيد أقدام المستعمر مع إرادته وحكمه، ومن ثم فقد كان قلقهم مبررًا تمامًا بدوافع أخلاقية واستراتيجية صحيحة.
بعد أن انقشعت ظلمة الأحداث، وبدا الآن الأمور تتكشف عن محاولة انقلاب فاشلة قام بها فصيل داخل الجيش، يأسا من طريقة حكم أردوغان، وتعويلا على حالة الغضب لدى قطاعات واسعة من الشعب، وإخلاصا لمعايير الجمهورية الكمالية التى أرسى دعائمها أتاتورك، فتصور هؤلاء أن خروجهم بالدبابات للشوارع وسيطرتهم على بعض الأماكن الحيوية، وإعلان بيانهم الأول الذى يقول إن مجلس السلام سيدير البلاد وأن الأحكام العرفية ستطبق مع حظر التجول، تصوروا رغم الانقسام على الخطوة داخل الجيش أن الشعب سيحتضن الحركة، وأن المعارضة التى شقيت فى الصراع مع أردوغان ستتلقف الفرصة لتتحالف مع العسكر، لتكون قناعًا مدنيًا للحكم العسكرى من جديد، لكن كل هذه التقديرات فشلت وأمكن احتواء الموقف والقبض على الانقلابيين وتحويل التهديد إلى فرصة لأردوغان، لإعادة توسيع صلاحياته من جديد والاستجابة لروح الانتقام لديه والسعى لتصفية كل خصومه داخل القضاء والجيش، وهو ما بدا فى إعلان القبض على ثلاثة آلاف عسكرى، إضافة إلى ثلاثة آلاف قاض، منهم قضاة فى المحكمة الدستورية العليا ومجلس الدولة، وهى المؤسسات الحامية لهوية الدولة، التى تمثل حجر عثرة أمام مشروع أردوغان العثمانى الجديد.
لكن السؤال: لماذا لم ينجح الانقلاب على الرغم من السمعة الجيدة لسلسلة الانقلابات التى ضربت تركيا منذ 1908 وصولا الى العام 1960 ثم 1971 ثم 1978 ثم الانقلاب الناعم على أربكان 1997 فى تقديرى أن هذا الفشل يعود لمجموعة من الأسباب:
رفض الشعب وعدم ترحيبه بالخطوة، وهو ما بدا فى لزوم المواطنين لمنازلهم، حتى قواعد العدالة والتنمية لم تخرج بكثافة إلا بعد أن أدركت أن النزول للشارع أصبح آمنًا، لكن النزول الأهم الذى ساهم فى إجهاض الانقلاب هو نزول المواطنين الشرفاء من أعضاء الحزب مسلحين بشكل جيد فى مواجهة دبابات الجيش، بعض هؤلاء كان من الدواعش الذين وجدوها فرصة لقتل أعضاء الجيش من الضباط والجنود، أبرزت وسائل الإعلام صورة أحدهم وهو يقطع رأس جندى فى إشارة واضحة على إنهاء صورة الجيش التركى المعروفة، لحساب صورة ضعيفة والدلالة واضحة لا شك.
فى تقديرى أن أردوغان احتاط لتلك اللحظة بعمل تشكيل أقرب للحرس الثورى كان يدًا بيد فى المشهد مع القوات الخاصة وقوات الشرطة التى كانت تدين له بالولاء بعد إعادة بنائها على طريقته، ربما من أهم الأسباب أيضًا معلومات تكشف أن الاستخبارات التركية علمت بالمحاولة قبل تنفيذها بساعتين، وهو ما مكنها من إجهاض أول خطوة فى نجاح الانقلاب، وهى اغتيال رئيس الدولة أردوغان، الذى أمكن للشرطة والقوات الخاصة والاستخبارات إخلاؤه من الفندق الذى تم قصفه بعد خروجه منه بدقائق قليلة، منتقلا إلى المطار الذى تم حشد أنصار الحزب إليه بعد نداء وجهه أردوغان عبر أحد وسائط التواصل التى كان يناصبها العداء، فساهمت فى إنقاذه فى لحظة حرجة، ليخطب فى الجموع، مؤكدا ضرورة البقاء محتشدين حتى الانتهاء من خطته فى القضاء على خصومه بالكامل، وهو ما تواصل فى حملات دهم ضمت وحدات عسكرية اتهم بعض منسوبيها بالمشاركة فى الانقلاب الفاشل، ثم يأتى اتهامه لفتح الله كولين حليفه الذى ساهم فى وصوله للحكم بالضلوع فى المحاولة فى مسعى للقضاء على خصمه، الذى يمثل بالكيان الموازى فى تركيا قوة لا يستهان بها، وعلى الرغم من أن قوة كولين بالأساس فى الاستخبارات والقضاء فإنه لا يتوفر على وجود ذى بال داخل الجيش، كما أنه أعلن معارضة الانقلاب شأنه شأن المعارضة الوطنية التى أعلنت هى الأخرى أنها ضد الانقلاب، كما أن الخصومة بين كولين وأردوغان والتى لم تظهر سوى قبل خمسة أعوام كانت نتيجة لمسلك أردوغان فى الحكم وانفراده بالسلطة، والدفع باتجاه دولة الفرد وهو ما تأكد فى إبعاد أردوغان لكل من يخالفه حتى لو كان صديقًا وشريك عمر وكفاح كعبد الله جول أو أحمد داود أوغلوا اللذين أبعدا بالأساس لارتفاع شعبيتهما وخلافهما معه فى الرأى وتهديد حظوظ أردوغان الذى تتعاظم طموحاته وحماقاته أيضًا، بالشكل الذى قد يصنع نهايته التى قد لا تتأخر، فالمعارضة لن تقبل بتوسع إجراءاته الانتقامية والمضى فى إعادة رسم ملامح جديدة لتركيا تتجاوز طبيعة الدولة التركية المعروفة.
بقى أن نقول إن ما يجرى فى تركيا على الرغم من انعكاساته على شكل المنطقة والعالم، إلا أنه يبقى شأنًا داخليًا تركيًا لا شأن للأغراب به خصوصا الأعراب، الذين يبتهجون بكل عدوان على الديمقراطية يأسًا من إرادتهم وحسدا للآخرين، أرجوكم انشغلوا أكثر بأنفسكم ولا تمارسوا السياسة على طريقة مشجعى الكرة، الذين ترتفع عقيرتهم بالتشجيع أو الشتم دون أن تقوى أقدامهم على الحركة حتى فى المكان، بفعل السمنة والانتظار الطويل لمعجزة لن تأتى.