احتفظت مصر بسلام بارد مع إسرائيل علي مدي العقود الثلاثة الماضية.. وذلك بفضل يقظة النقابات والأحزاب والأزهر والكنيسة والمنظمات الشعبية النشطة في الدعوة إلي مقاطعة العدو الإسرائيلي واقتصرت العلاقات بين الجانبين علي الأجهزة الحكومية وبعض الوجوه المعروفة بالموالاة والتودد.. بينما بقي الشعب بعيدا عن هذا المستنقع التطبيعي وأقصي ما وصلت إليه العلاقات "الباردة" انحصر في مجال التعاون الأمني والاقتصادي المحدود واتفاقية الكويز التي دخلت أمريكا طرفا ثالثا لتشجيع الانتاج المشترك بين الجانبين.
الآن.. هناك من يبشر بـ "سلام دافيء" بين مصر وإسرائيل.. بمعني أن تدخل الدولتان في علاقات طبيعية متشعبة كأي دولتين متجاورتين والحجة الجاهزة التي يحتج بها هؤلاء المبشرون هي "المصلحة" ومصلحة مصر تحديدا التي يبدو انهم اكتشفوا انها بالكلية مع إسرائيل.. فإسرائيل من وجهة نظرهم هي الباب الذي ستدخل منه مصر إلي أمريكا.. القوة العظمي الأولي.. وإسرائيل هي التي ستضمن مصالح مصر في افريقيا بعدما اتضح ان نفوذها مع دول جنوب الصحراء ومنابع النيل قد بلغ مبلغا هائلا.. وإسرائيل هي التي يمكن ان تساعد مصر في أزمة سد النهضة مع أثيوبيا وفي تصوري ان هذه الحجج الواهية غير حقيقية.. وتنال من مصر ومكانتها أكثر مما تضيف إليها.. ولو صحت هذه الحجج لكان باطن الأرض خير لنا من ظهرها.
العلاقات الطبيعية بيننا وبين إسرائيل لم ولن تكون علاقات السلام الدافيء إلا إذا أردنا أن نخدع أنفسنا ونغيب وعينا.. وإنما هي علاقات بين دولتين تحاربتا.. ثم وقعتا معاهدة سلام لم تطبق منها إلا البنود الخاصة بالامتناع عن الحرب.. أما البنود الخاصة ببناء السلام الحقيقي فمازالت بعيدة.. فمازالت إسرائيل تحتل أرض فلسطين.. وتعتدي يوميا علي شعبها وتصادر الأراضي والبيوت وتدنس المقدسات.. وتفرض اليد العربية الممدودة لها بمبادرة صيغت علي أساس قرارات الشرعية الدولية التي تطالب باقامة دولة عربية علي حدود 1967 وعاصمتها القدس المحتلة وعودة اللاجئين الفلسطينيين إلي ديارهم.
ومصر لن ترضي ولن تستطيع أن تدير ظهرها للقضية الفلسطينية التي هي أساس الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط ولن ترضي ولن تستطيع أن تبحث عن مصالح لها مع إسرائيل علي حساب حقائق التاريخ والجغرافيا.. لأن أي انحراف عن هذه الحقائق أو تجاهلها يعني وجود خلل كبير في الأمن القومي المصري لا يملك إصلاحه أو تداركه.
وقد كان الوعي المصري بضوابط السلام "البارد" مع إسرائيل هو السد المنيع الذي حال دون هرولة العديد من الأنظمة العربية المنبطحة في اتجاه العدو.. إسرائيل نفسها تدرك هذه الحقيقة تماما.. وتدرك ان اختراق الأمن القومي المصري يعني مباشرة اختراق الأمن القومي بأكمله.. فمصر هي بوابة العرب.. هي التي تمنح الشرعية لأي خطوة تطبيعية أو تمنعها.. كما ان مصر هي صاحبة قرار الحرب والسلام.. ويوم ان تلجأ مصر إلي إسرائيل لحل مشكلتها مع اثيوبيا أو مع دول حوض النيل أو مع ايطاليا - مشكلة ريجيني - فذلك هو اليوم المنتظر.. يوم الجائزة.
ربما يخطيء البعض في التعامل مع ملف السلام البارد.. وربما لا يفهم البعض اشتراطات السلام الدافيء.. وربما يقع البعض في فخ الاستسهال والاستهبال.. لكن قوي المناعة الكامنة في الضمير الوطني المصري هي الضامن الأكبر لاستقامة خطوط العلاقات مع إسرائيل عند الحد المقبول الذي لا يجرح الكرامة الوطنية ولا يهدد ثوابت الأمن القومي.
وأكمل غدا ان شاء الله.