المصرى اليوم
ايمن الجندى
المحرقة
هذه قصة خيال علمى أرسلها لى القارئ «أدهم إسماعيل» (٢٢ سنة). وأحداثها التى تدور فى المستقبل تثير بلاشك التأمل.
نسمات الهواء الباردة تتسلل إلى أوصالى الضعيفة فتوقظنى. مازالت الخامسة فجرا. أتحرك بكرسى المقعدين إلى الشرفة. أعانق النسمات البتول. أصلى الفجر. أغفو ثم أفيق. وهكذا.

دقت السابعة. استيقظ أحفاد أحفاد أحفادى. تلك النظرات الكارهة وكأنها تتساءل أمازلت هنا! لماذا لاتزال هنا؟

أذكر كل شىء كما حدث منذ مائتى وثلاثين عاما. كنت قد أتممت العاشرة. وقتها نادانى أبى بصوت صارم: «هيا بنا هذا يوم المحرقة».

ساحة كبيرة. يتوسطها رجال طاعنون فى السن. جدى الأكبر واحد منهم. يبدأ العد التنازلى. يصوب أفراد الشرطة أسلحة النيران صوبهم. تخبو النيران بعد أن حولت أجسادهم إلى رماد. ينصرف الحاضرون فى هدوء. وقتها لم أفهم هذا كله. لم أدر وقتها لماذا يقيمون المحرقة؟ والأهم لماذا نقبل بكل هذا الهدوء حرق أقرب الناس إلينا؟!

تاريخ قديم. الحكاية كما عرفتها بدأت عام ٢٠٥٠. عندما اكتشف العلماء مصل الخلود. يُعطى هذا المصل للوليد مرة واحدة. ثم تتوارثه الأجيال القادمة عن طريق الجينات الوراثية. فنعيش أكثر من ألف عام.

كان هذا اكتشافا مذهلا بالنسبة لى. تساءلت فى ذهول: «هل يعنى ذلك أننا لسنا أبديين بطبعنا؟». ردوا فى سخط: «بالطبع! كانوا يموتون حتف أنفهم لولا ذلك المصل اللعين الذى غير جيناتنا إلى الأبد».

هذه هى بقية القصة: اكتشفوا بعد حين أضرار هذا المصل. عندما زادت أعداد السكان زيادة مروعة. وبدأ الكل يقتل الكل كى يعيش. لم تكف موارد الأرض لكل هذا العدد من البشرية.

لذلك كانت المحرقة!

المحرقة. النار البرتقالية المتراقصة. النار التى تطهر الأرض من شطط الإنسان. بدأتها دول شرق آسيا. صاروا يحرقون كل من أكمل المائتين حفاظا على نسبة السكان. وقد أعجب العالم بالفكرة. وبدأوا يسنونها كقوانين منظمة.. بطقوس معينة.. مثل اجتماع المسنين المتمين المائتين فى ميدان عام كل بداية سنة جديدة.. وإحراقهم أمام أهليهم.. كى يطمئنوا على رحيلهم ويعلموا أنه مصيرهم القادم.

هكذا فهمت أصل الحكاية. ما لم يخبرونى به هو ذلك الشىء الرهيب المرعب. المصل اللعين يؤخر الموت فقط، ولكن لا يؤخر الشيخوخة. صرت عجوزا فى السبعين. هل تفهم الكارثة؟ كان أمامى مائة وثلاثون عاما أخرى!

سنوات طوال مضت منذ بدأت شيخوختى فى الظهور. أمراض كثيرة استباحت جسدى. لكن هذا المصل اللعين يمنعنى من الموت الطبيعى.

صرت فى المائة والسبعين من عمرى حينما حان دور أبى فى المحرقة. أبى قد أتم المائتين. وأمى أصرت أن تُحرق معه. أردت الرحيل معهما ولكننى خفت. لا أدرى لِمَ؟

أتى يومى الموعود. تجهز الكل لرحيلى. لكنى رفضت. رفضى كان بائنا فى عيونى.. لم أرفض حبا فى الدنيا. ولكن أملا أن يمنحنى ربى ميتة من عنده يستلب فيها روحى بلطف. لا أريد أن أُحرق أمام العامة.

ولا أدرى حتى الآن لماذا تركونى!

أفقت من غفوتى على صوت يقول: «هلا حضرتموه! ستبدأ المحرقة بعد قليل».

قال حفيدى بعصبية: «متى سننتهى من هذه الخردة.. لقد تأخر موته أربعين عاما؟!!».

وصلنا إلى الميدان. الأمطار تهطل بغزارة. والكل ينتظر وقت الحسم. لكن أعلن الميكروفون: «نظرا للظروف الجوية غير الملائمة تأجلت المحرقة لهذا العام».

تفرق الحشد. تركنى أحفادى وانصرفوا. بقيت وحدى فى الساحة الخالية مبتهلاً وشرعت أبتهل لربى أن يتوفانى.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف