حين قرأت للشاعر الكبير ـ الكبير سناً ـ قصيدة في "الأهرام" أشفقت عليه وعلي الشعر معاً.. فالرجل علي ما يبدو قد غادره طائر الإلهام الجميل وهجره هجرا بلا عودة.. فصار ماؤه غوراً.. وهو لا يدرك ذلك.. ويصر علي انه قادر علي أن يصنع الشعر بدون طائره.. لكنه بدا عاجزا عن أن يصنع أو حتي يتصنع.
أراد الشاعر الكبير ـ الكبير سناً ـ أن يشاطر المصريين أحزانهم بقصيدة في شهداء الجريمة الإرهابية البشعة التي راح ضحيتها 21 بريئا في ليبيا.. وكان قد صمت عن الشعر دهراً.. فجاءت كلماته التي ظنها قصيدة مسخاً غير مترابط.. بلا روح.. لا تقول شيئا.. وتفتقد إلي أبسط قواعد الفن.. ناهيك عن الفن الشعري.. والحمد لله انه لم ينشر بعدها شيئا حتي لا يسيء إلي نفسه وإلي الشعر.
لقد سقط الشاعر الكبير سناً منذ زمن بعيد في آفة الحشو والغموض.. والإغراق في الدوران حول الذات.. والإنحراف الفكري عن قيم المجتمع وثوابته.. والغلو في السفسطة التعبيرية التي لا يفهم صاحبها ما يريد ولا يفقه الجمهور ما يقول ولا يجد له ضرورة فينصرف عنه.
الشعر رسالة.. رسالة مركزة ومشفرة ومكثفة جداً.. ولكي تصل الرسالة إلي الجمهور المستقبل فلابد أن يكون الراسل ـ الشاعر ـ مؤهلاً لمخاطبة الناس بصنعة الأدب.. والتأثير فيهم.
ولما كان الشعر قديماً أهم وسائل الاتصال ـ الإعلام ـ في المجتمع جاز لنا اليوم أن نعتمد المنهج الاتصالي ـ أو الإعلامي ـ كمدخل جديد في النقد.. وجاز لنا أن ننبه إلي ضرورة أن تكون الرسالة القادمة من الشاعر إلي الجمهور ـ أي القصيدة ـ معبأة بمعاني ورموز تتفاعل مع هذا الجمهور.. وتحرك سواكنه.. وتحدث فيه ومعه الاتصال والتواصل والتأثير.
وإذا لم يتحقق ذلك.. وانفصلت القصيدة عن دائرة الاتصال.. وانكفأت علي صاحبها.. تخلي عنها جمهور الشعر وتجاهلها.. ولم يشعر بها وهي تمر أمامه علي صفحات الكتب أو الجرائد.. أو حتي وهي تلقي أمامه في جلسات مغلقة.
بالطبع أنا لا أدعو إلي المباشرة في الخطاب الشعري.. ولا أدعو إلي مغادرة نظريات النقد المعروفة.. ولا أدعو حتي إلي إسقاط الحداثة التي دمرت الشعر والشعراء.. وإنما أدعو كل شاعر إلي أن يستفيد من ذلك الرافد النقدي الجديد حين يبدع.. ولينظر فيما يقول من شعر: ماذا يقول؟!.. ولماذا؟!.. ولمن؟!
وأزعم ان هذا لو حدث لاستيقظ الشعر العربي من مواته الطويل الذي ساهم فيه شاعرنا الكبير سناً.. ولعاد إلي جمهوره الذي يتعطش إليه.
ثم ان الشعر العربي فن قولي.. فيه من ذات صاحبه الكثير.. والفن إعجاز.. لذلك لابد أن يري الجمهور في الشاعر موهبة وفناً وإعجازاً وعلماً لا يتوافر في آحاد الناس.. وقدرة علي القول تتضاءل أمامها قدرات الآخرين البلاغية.. وإعجاز الشعر لا يأتي إلا بأن يلزم الشاعر نفسه بقواعد وأصول وضوابط متعارف عليها عند أهل الفن.. هذه القواعد والأصول هي التي تصنع سحر البيان.
لقد كان المتنبي ساحراً.. وكان شوقي ساحراً.. وكان صالح جودت وصلاح عبدالصبور والسياب ونزار وأمل دنقل ساحرين.. وأمامنا اليوم سحر فاروق جويدة وعبدالحميد محمود ومحمد التهامي وعبدالمنعم عواد يوسف وكمال نشأت.. ومن أراد أن يسلك مسلكهم عليه أن يقول كلاما مفهوما ومؤثرا ومحركاً للناس.. كلاما ينبع من التراث المشترك بين الشاعر والجمهور.. أما أولئك الذين يدورون حول أنفسهم.. وينكفئون علي ذواتهم.. وينبع كلامهم من تراث آخر غير التراث العربي.. يستعلي علي الناس.. وينأي عن مواجدهم.. فهؤلاء ليسوا بشعراء.. وإنما هم إلي كتاب اليوميات والمذكرات الشخصية أقرب.