>> في نفس الشهر الذي نحن فيه ـ شهر يوليو ـ قبل 47 سنة.. صنعت الأقدار حدثاً هو في الواقع أسطورة.. قوامها شموخ وكبرياء وحب وانتماء وعطاء وشجاعة وفداء...
أسطورة تحسبها من وراء الخيال والحقيقة أنها حقيقة حدثت يوم 20 يوليو علي أرض سيناء الطيبة الطاهرة الحاضنة للمعجزات!.
قصة حقيقية البطولة فيها جماعية.. أرادها الله سبحانه وتعالي النور المُبَدِد للظلام في أي وقت وأي مكان لنهتدي به ونتعلم منه لكننا لم نفهم الرسالة بل لم نستقبلها من الأصل!. قصة رعاها الله لتكون الأمل عندما يتملك اليأس.. الهداية إذا ما حل الضلال.. الشجاعة عندما نستشعر الخوف.. الإرادة لصد بشائر الاستسلام.. القوة وقت قدوم الضعف!.
في تاريخ مصر المحروسة البعيد والقريب أحداث لا تحصي لا مثيل لها في العالم.. أحداث عظيمة غير متشابهة.. الثابت الوحيد فيها الإنسان المصري.. والمعني أن عبقرية المصريين رَحِمْ المعجزات!.
معجزات صناعة مصرية!. حقيقة حدثت ووقعت لكنها منسية!. لماذا؟!. لا أعرف!.
معجزات علي هيئة أحداث نحن أبطالها ونحن أيضاً من طواها لننساها.. ولو أنها في دولة أخري.. لجعلوا تواريخها أعياداً يستعيدون فيها سنوياً ما حدث.. ليس بقصد أنها أعياد أعظم ما فيها يوم الإجازة.. إنما هي طاقة نور للأجيال الصغيرة والشابة.. طاقة أمل تجذبهم ليقتربوا إليها ويتعلموا منها!. طاقة عطاء.. طاقة شجاعة.. طاقة حب.. طاقة انتماء.. طاقة فداء.. سنوياً نسترجعها لتتأكد الأجيال أنها من صلب رجال وأنها في المستقبل قادرة علي تكرار صناعة المعجزات!.
اليوم أقدم لحضراتكم واحدة من قصص الإعجاز.. بطلها وأبطالها مصريون. قصة كان يجب أن تنتهي وقت أن بدأت وفقاً للمنطق البشري.. لكن الله أرادها باقية حَيَّة حتي يومنا هذا.. ربما وهذا ما أعتقده أنا.. لأجل أن نَعْلَمْ ونَتّعلَّم ونُعلِّم!.
عموماً أنا لم ولن أنسي طالما في صدري قلب ينبض.. تعالوا في النقاط التالية نري طاقة النور في حكايتنا التي أراها أسطورة.. أسطورة بجد وبحق!.
1ــ البدايات تصنع النهايات ومراحل السن المبكرة هي التي تُشَكِلْ ملامح وقوام وأساس بقية عمر الإنسان!. صناعة جيل أساسها الطفولة!. بناء الأمم يبدأ من الطفولة!.
وهكذا حال قصتنا التي أبدأها من طفولة بطلنا!. الوقت أواخر الأربعينيات. محافظة الإسماعيلية.. مركز أبوصوير عزبة أبوعمر.. والعزبة أصغر من القرية!. مكان صغير جداً مثله الآلاف في مصر.. ومنطق الأمور يقول إن أحداث الأماكن الصغيرة غالباً قد لا تتخطي حدودها ويطويها النسيان قبل أن تنتهي!.
المكان صغير.. لكن بطلنا الطفل الصغير اهتم بما لم يهتم به الصغار!. ذهب يوماً مع والده بائع الخضار إلي الإسماعيلية ومغادرة العزبة الصغيرة إلي المدينة الكبيرة لوحده حدث!. شاهد الطفل الصغير وحشية الإنجليز.. قسم شرطة البستان مدمر تماماً!. راح يسأل.. ومن الإجابات القليلة بدأت كراهيته للإنجليز!. حكاوي الأمهات والجدات عن وحشية الإنجليز زرعت داخله شيئاً لم يتعرف عليه وقتها.. كل ما يعرفه أنه يكره الإنجليز.. لأنه سمع الحكاوي ورأي بعينيه قسم البستان الذي دمره الإنجليز!.
2ــ ترسخت الكراهية وتأكدت.. عندما قتل الإنجليز محمد أبوبركات بتهمة قيادة فدائيي أبوصوير!. الرجل «قاعد» في المندرة داخل بيته.. دخل الإنجليز وضربوه بالرصاص في رأسه!. هكذا سمع بطلنا الصغير الحكاية وتأكد منها عندما تسلل وسط الزحام حول بيت أبوبركات ومن بين الأجسام الطويلة المتراصة الغاضبة الحانقة غير القادرة علي فعل شيء.. من بينها تسلل إلي أن دخل المندرة زاحفاً من بين الأرجُلِ مصمماً علي أن يري أبوبركات!. رأي جسداً مغطي ببطانية والدماء كثيرة لكنها ليست أكثر من صراخ النساء!. المنظر الذي رآه والصراخ الذي عاشه.. حركا الكراهية للإنجليز الموجودة داخله إلي نقطة أخري!.
3ــ في سن الثامنة ترجم الكراهية إلي عمل ضد الإنجليز ولم يكن بمقدوره إلا ضرب الطوب علي أي سيارة لهم والجري بعيداً!. كان يشاهد الطوبة التي يلقيها لا تصل للسيارة.. لكنه كان راضياً بقدرته علي فعل شيء!.
في سن العاشرة كانت حرب 1956.. ومطار أبوصوير قريب من العزبة.. والطفل الصغير يذهب يومياً قريباً من المطار ويجلس طويلاً يراقب المدافع التي تحرس المطار.. هكذا قالوا له عندما سأل!. الطفل الصغير يومياً يذهب إلي سور المطار الذي تحرسه مدافع الدفاع الجوي.. شيء داخله يدفعه للذهاب إلي جنود مصر ومدافع مصر.. ربما لإحساسه بالطمأنينة لوجوده إلي جوارهم لأنه لم ينس وصعب أن ينسي ما رآه من وحشية الإنجليز في الإسماعيلية!. لم ينس أبوبركات الذي قتله الإنجليز!. إحساسه أنه في أمان وسط جنود مصر!. يوم 30 أكتوبر صباحاً ذهب كعادته لكنه هذه المرة فوجئ بما لم يخطر علي تفكيره!. الجنود الذين عرفوه وأحبوه بعضهم راقداً بلا حراك والآخر مصاب والدماء تنزف منه!. طفل في مثل عمره الطبيعي أن يجري مذعوراً عائداً لبيته!. لم يفعل ذلك إنما ذهب بسرعة إلي واحد من المدافع بجواره بعض الجنود.. ومن كلامهم عرف أن دانات المدفع موجودة في حفرة بعيدة بعض الشيء عن المدفع.. وعندما وجد جندياً يجري مسرعاً للحفرة جري خلفه ليساعده في نقل الدانات من الحفرة إلي المدفع!.
هذه الواقعة رسخت داخل الطفل الصغير حلم أن يكون يوماً جندياً في جيش مصر!. الحلم أصبح هدفاً عندما شاهد قوات الصاعقة وهي ذاهبة إلي بورسعيد للاحتفال بعيد بورسعيد في نوفمبر من كل سنة أمام الرئيس عبدالناصر!. الصاعقة في طابور سيرها لبورسعيد يمشي وراءهم لمسافة إلي أن يتعب ويعود!. يعود وحلم عمره أن يكون يوماً مقاتلاً مثل هؤلاء في الصاعقة!.
4ــ حلم الصاعقة أنساه حادث جنود حراسة المطار.. لكن كان هناك مَن رصد رد فعل الطفل الصغير وشجاعته وجرأته!. إنه محمد أفندي المدرس!. هكذا عرفوه في عزبة أبوعمر.. والمفاجأة كانت في الثمانينيات!. محمد أفندي لم يكن إلا النقيب محمد عبدالفتاح أبوالفضل ضابط المخابرات العامة في أبوصوير!. في الثمانينيات أصبح اللواء محمد عبدالفتاح أبوالفضل.. نائب رئيس المخابرات ولأن مخابرات مصر ذاكرتهم فولاذية.. لم ينس ما فعله الطفل الصغير قبل ربع قرن!. شهادة تقدير من المخابرات العامة موقعة من اللواء أبوالفضل الذي سلمه بنفسه الشهادة في منتصف الثمانينيات!.
5ــ الطفل الصغير أصبح في سن التجنيد.. إنها اللحظة التي ينتظرها من سنين!. الصاعقة حلمه وهدفه لكنه فوجئ بأن تجنيده حرس جمهوري لأنه «فرز أول» طول ولياقة وصحة!. صدمة عمر بالنسبة له أنقذه منها أخوه غير الشقيق وهو مساعد في الجيش!. نجحت المحاولة وتحقق الحلم وأصبح رسمياً مقاتل صاعقة.. ووصل قلعة القوات الخاصة بأنشاص في 8 مارس 1967. انتهت فترة التدريب واختاره القدر للكتيبة 23 صاعقة الموجودة في بير تماده جنوب العريش!. جاء يونيو 1967 وحدث ما حدث وصدر قرار الانسحاب لجيش مصر قبل أن يطلق طلقة!. الكتيبة 23 صاعقة انسحبت وقطع مقاتلوها 180 كيلو سيراً علي الأقدام في 7 ليال!. يسيرون ليلاً ويختفون نهاراً تفادياً لطيران العدو الذي يمرح في سماء سيناء!. شاهد الرجال كل تجاوزات العدو التي فاقت كل تصور.. بطلنا مثل بقية الأبطال لم ينسوا وطاقة الغضب الهائلة كانت القوة والإصرار والعزيمة في التدريب والتدريب لأجل يوم قادم لا محالة للانتقام والانتصار!.
6ــ القيادة دفعت ك 23 صاعقة فور وصولها من سيناء إلي بورسعيد. الوقت قليل والمهام كثيرة.. لا وقت للراحة.. وحتي لو هناك فرصة للراحة لا أحد يريدها لأن الدم يغلي في العروق!. يوم 15 يوليو رصدوا دبابتين للعدو في الشرق. ليلاً دورية من 8 مقاتلين اجتازت القناة وتوغلت قرابة الثلاثة كيلومترات حيث تربض الدبابتان وتم تدميرهما!. عملية كان لابد للكتيبة أن تقوم بها لتنفض من الذاكرة الهزيمة التي وقعت من شهر وتزرع في الصدور بداية مرحلة ملاحقة العدو أي وقت وكل مكان.. لنعرف ويعرفوا!. نعرف أننا نقدر ويعرفون أنهم في متناولنا حتي لو كانوا في عين الشمس!. ليل نهار عمليات هجومية يتسابق المقاتلون علي القيام بها من بورسعيد وحتي القنطرة بمواجهة 40 كيلومتراً تقريباً!.
7ــ في إبريل 1968 عادت ك 23 صاعقة لقاعدتها أنشاص للتدريب. وفي يوليو 1968 تم دفعها إلي القنطرة غرب ووقتها قائد الكتيبة الرائد محرم مصطفي عنبر. ومن أول يوم في القنطرة بدأت عمليات الإغارة علي الحدود في الشرق!. ناس داخله وناس طالعة.. مشكلة العدو أنه أمام مقاتلين لا يخافون الموت.. مقاتلون جرأتهم وشجاعتهم تفوق أي تصور!. في كل مرة يفاجأ العدو بهم وكأنهم هبطوا من السماء ليحولوا المكان في لحظات إلي جحيم!.
8ــ نحن في عام 1969 والكتيبة ك 23 صاعقة تولي قيادتها النقيب سمير يوسف وهو وحده حكاية!. تعليمات القيادة تدمير منطقة مخازن للعدو ما بين الكاب والتينة في عمق سيناء في الشرق!. تم تشكيل مجموعة قتالية قوامها 19 مقاتلاً بقيادة م.أ عيد زكي إبراهيم. التدريب علي المهمة استمر قرابة الشهر علي موقع تم بناؤه للتدريب عليه والتطبيق علي «تختة الرمل».. ومع تمام الاستعداد انطلقت الدورية التي صنعت أسطورة.. من اختار من؟. القدر اختارهم أم هم اختاروا القدر؟!.
9ــ ليلة 20 يوليو 1969 تحرك الأبطال بعد آخر ضوء. قطعوا المسافة في سبع ساعات ونصف ووصلوا إلي هدفهم 4 فجراً. في طوابير سير الصاعقة مثل هذه المسافة تُقْطَع في خمس ساعات.. لكن الأمر يختلف في العمليات لأن الهدف الأساسي الوصول دون اشتباك مع العدو إلي الموقع المراد تدميره ولذلك الدورية في سيرها تتجنب أي مواقع للعدو في طريقها وقد تضطر لقطع مسافات أطول لأجل ألا تصطدم بالعدو!. أيضاً تضطر الدورية للتوقف إلي أن ينتهي قائدها من استطلاع خط سيرها حتي لا يفاجأ بكمين!. الدورية ثلاث مجموعات. الأولي قائدها هو قائد الدورية الملازم أول عيد زكي إبراهيم ومهمتها الهجوم علي ملجأ مبيت جنود العدو. الثانية والثالثة تثبيت العبوات الناسفة حول المخازن وتوصيلها ببعضها من خلال فتيل التفجير. المجموعة الأولي في لحظات قتلت جنديي الحراسة لملجأ مبيت جنود العدو واقتحموا المكان وقتلوا كل من كانوا فيه «16 قتيلاً». وبنفس السرعة تم إجراء اللازم بتحزيم المخازن بالعبوات الناسفة وإشعال فتيل التفجير البطيء الاشتعال لكي يحدث الانفجار والدورية علي أبعد مسافة من الموقع.. وحدث!.
10ــ الدورية في عودتها التعليمات الجري بأقصي سرعة لقطع أطول مسافة تجاه القناة وبالفعل أصبحوا علي مسافة 11 كيلومترًا تقريباً!. الانفجار وقع بعد شروق الشمس!. هي مسألة وقت وطيران العدو سيكون فوقهم!. قائد الدورية تعليماته الانتشار حتي لا يكونوا هدفاً سهلاً للطيران في أرض مفتوحة لا شجرة فيها ولا ساتر وما أصعبها لحظات!.
بالفعل وصلت 2 ميراج و2 سكاي هوك!. علي الأرض المفتوحة.. أبطالنا ماذا يفعلون في مواجهة 4 طائرات مقاتلة «نزلت» عليهم وبدأت تضربهم بالرشاشات؟!.
بطلنا كان متأخراً مسافة عن زملائه.. فاستلمته طائرة وركزت عليه برشاشها وهو يجري منها هنا وهناك.. وعندما اشتد الضرب وانعدمت الحيلة.. بدأ يتعامل مع الطائرة بالبندقية الآلية!.
الطيار مصمم علي قتل بطلنا.. وفي كل مرة ينزل عليه ويضربه وفي كل مرة تذهب الطلقات في كل اتجاه بعيداً عنه.. وتبتعد الطائرة وإلي أن تعود للهجوم تمر لحظات صعبة لأنه لا يعرف أي منها تحمل معها النهاية!. في النهاية وقف والطائرة قادمة هابطة نحوه.. أشار بيده للطيار بما يعني «لو راجل انزل لي» بعدها لم يعرف ما حدث.. والذي حدث أُطلِقَ عليه صاروخ انفجر قريباً جداً منه.. لكن دويّ الانفجار أطاح به في الهواء وأسقطه علي الأرض!.
19 مقاتلاً مصرياً في مواجهة أربع طائرات مقاتلة للعدو.. بكل حسابات العسكرية المفترض أن تمحو الطائرات المقاتلة الـ19 مقاتلاً من علي وجه الأرض!. هذا لم يحدث والـ19 مقاتلاً بالشجاعة ورباطة الجأش والعقيدة القتالية واليقين بأنهم علي حق.. أفشلوا كل محاولات الطائرات الحربية للنيل منهم!. المسألة علي الأرض مستحيلة.. مقاتل في مواجهة طائرة حربية.. ومن يري طائرة حربية وهي تهبط بسرعتها الفائقة وصوتها الرهيب وطلقات رشاشاتها المرعبة.. من يعيش اللحظة يتسمر مكانه بلا حراك!. المقاتلون المصريون الذين لا يعرفون شكلاً ولا طعماً ولا رائحة للخوف ظلوا يناورون الطائرات جرياً في كل اتجاه إلي أن نفدت ذخيرة رشاشات الطائرات الأربع.. وهو ما دفع طائرة منها بعدما يئس طيارها لضرب بطلنا بصاروخ!.
11ــ بطلنا يعي تماماً ما حوله لكنه غير قادر علي الحركة!. يريد أن ينهض لكنه لم يقدر!. يشعر بظلام في نصف وجهه الأيمن!. تلفت حوله لمح أشلاء بشرية أمامه وظن أنها لواحد من زملائه!.
حاول النهوض ولم يقدر ثانية.. لكنه هذه المرة عَرِفَ!. اكتشف أنه فقد ساقه اليمني وساقة اليسري وذراعه اليمني وعينه اليمني!.
لحظات أغرب من الخيال مرت علي البطل الذي بدأ يسأل نفسه وهو يتحسس ما تبقي من جسده!. ثلاثة أرباع جسمي طارت «ولسه عايش»!. كيف؟!. لحظة إطلاق الصاروخ عليه أيقن أنه نال الشهادة.. وانفجر الصاروخ وأطاح بساقيه وذراعه وعينه ومازال حياً بعد «ده» كله ما فيش شهادة!.
المساحة انتهت لكن الأسطورة لم ولن تنتهي.. وإلي الأسبوع القادم بإذن الله!.
تحية إلي جيش مصر في الأمس واليوم والغد وكل غد.