المصريون
حسن نافعة
حركة في الاتجاه الخاطئ
يصعب التعامل مع الزيارة الرسمية التي قام بها وزير خارجية مصر إلى إسرائيل مؤخرا وكأنها زيارة روتينية أو تقليدية, لأنها ليست كذلك بالفعل, خصوصا وأنها أثارت ردود أفعال غاضبة ما تزال أصداؤها تتردد حتى الآن, سواء على مستوى رجل الشارع أو لدى قطاعات واسعة من النخب السياسية في مصر والعالم العربي, وذلك للأسباب الآتية: أنها أول زيارة رسمية تتم على هذا المستوى بعد فترة برود دامت لما يقرب من عقد كامل من الزمان, إذ يعود تاريخ آخر زيارة من هذا النوع إلى بداية عام 2007. ولأن السياسات والمواقف الإسرائيلية التي تسببت في برود العلاقة بين مصر وإسرائيل ما تزال كما هي, بل وتزداد تطرفا وتعنتا بمرور الوقت, فقد بدا إقدام مصر على تلك الخطوة وكأنها هرولة لا مبرر لها, وهدية مجانية لا تستحقها إسرائيل, خصوصا وأن الحجج التي ساقتها مصر لتبرير هذه الزيارة أو لتوضيح المزايا المرجوة من ورائها, مصريا أو عربيا أو فلسطينيا, لم تكن مقنعة. وهي زيارة تمت في المكان الخطأ, اي في مدينة القدس التي تحتل إسرائيل شطرها الشرقي وتتمسك بها "عاصمة أبدية موحدة للدولة اليهودية", وفي التوقيت الخطأ, أي عقب تعديل وزاري اسفر عن تعيين ليبرمان, الذي طالب يوما ما بضرب السد االي, وزيرا للدفاع في الحكومة التي ذهب شكري ليتفاوض مع رئيسها!. ولأن منظمة الأمم المتحدة, وكذلك أغلب دول العالم, لا تعترف بالوضع الحالي غير القانوني لمدينة القدس, يخشى أن يساء استغلال هذه الزيارة, وأن يجري تسويقها كدليل على اعتراف مصر بالأمر الواقع, وأن تتخذ كذريعة لتبرير إقدام دول أخرى على زيارات مماثلة قد تؤدي على تشجع إسرائيل على التمادي في غيها. وأحيطت بأجواء أريد لها أن تبدو "حميمية" على نحو مبالغ فيه. فلم يكتفي المتحدث الرسمي ياسم الحكومة الإسرائيلية بإصدار تصريح يشير فيه إلى أن نتانياهو "استضاف وزير خارجية مصر في منزله بالقدس, وتناول العشاء معه هناك, ثم شاهدا معا مباراة نهائي أمم أوربا", لكنه حرص في الوقت نفسه على تدعيم ما جاء في تصريحه بصور نشرها على صفحته بمواقع التواصل الاجتماعي, مثيرا بذلك موجة عارمة من الاستياء لدى ملايين المصريين والعرب. تجدر الإشارة هنا إلى أن هذه الزيارة, والتي ذكر بيان صدر عن وزارة الخارجية في مصر أنها استهدفت "توجيه دفعة لعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية", جرت بعد أقل من شهرين من إطلاق الرئيس عبد الفتاح السيسي "مبادرة" وصفت بأنها " تستهدف تحويل السلام البارد بين مصر وإسرائيل إلى سلام دافيء", وبعد أسابيع قليلة من لقاء لنفس الغرض تم في رام الله مع رئيس السلطة الفلسطينية, وبعد أيام قليلة من عودة رئيس الوزراء الإسرائيلي من جولة إفريقية في دول حوض نهر النيل. لذا يعتقد على نطاق واسع أنها زيارة تدشن لمرحلة مختلفة نوعيا في علاقة مصر بإسرائيل, وربما تعكس بداية تحول في التفكير الاستراتيجي المصري حول ما ينبغي أن يكون عليه شكل هذه العلاقة في المستقبل المنظور, ساعدت عليه عوامل وتفاعلات إقليمية ودولية أهمها: انهيار النظام الإقليمي العربي بعد فترة طويلة وجد فيها نفسه محشورا بين مطرقة النظم الحاكمة المستبدة والفاسدة, وسندان القوى السياسية والاجتماعية المتطرفة التي قررت حمل السلاح لإسقاطها, وتطلع قوى إقليمية في الوقت نفسه, خاصة تركيا وإيران وإسرائيل, لوراثة هذا النظام واقتسام تركته. تخبط وانقسام العالم الإسلامي على نفسه وتشرذم قواه, تحت وقع الضربات المتبادلة بين تيارين متصارعين يدعي كل منهما أنه يمثل الأمة الإسلامية ويتحدث باسمها ويعمل على توحيد صفوفها, تارة في مواجهة "قوى الاستكبار العالمي" تحت شعار "ولاية الفقيه", وتارة أخرى في مواجهة "تحالف الصليبيين واليهود" تحت شعار "الخلافة الإسلامية" !!. عودة روسيا الاتحادية كلاعب مؤثر في مجمل التفاعلات الشرق أوسطية, مستغلة فراغ القوة الناجم عن عزوف إدارة أوباما عن القيام بدور "رجل بوليس المنطقة", من ناحية, وانشغال الولايات المتحدة الأمريكية بالانتخابات الرئاسية, من ناحية أخرى. انشغال دول الاتحاد الأوربي, ربما لفترة طويلة قادمة, بترميم التصدع الذي بدأ يصيب بنيان الاتحاد عقب زلزال الاستفتاء الذي تقرر بموجبه انسحاب المملكة المتحدة منه. تغيرات حادة طرأت مؤخرا على سياسة تركيا الخارجية, عقب إقدام إردوجان على تطبيع العلاقة مع كل من روسيا الاتحادية وإسرائيل, خاصة بعد تأكده من قدرة نظام بشار على الصمود, وهي تغييرات قد يطرأ المزيد منها في المستقبل القريب, خاصة عقب وقوع انقلاب عسكري فاشل كاد يطيح بالنظام السياسي التركي برمته. يبدو أن بعض التحليلات حول التأثيرات المحتملة لمجمل هذه العوامل والتفاعلات على مستقبل وموازين القوى في المنطقة, قد توصلت إلى استنتاجات مفادها أن المنطقة مقبلة على انهيارات جديدة, وأن إسرائيل أصبحت هي طوق النجاة الوحيد المتاح أمام بعض النخب الحاكمة في عدد من الدول العربية, وبالتالي لم يعد أمامها من سبيل لإنقاذ مصالحها سوى بإعادة النظر في نمط العلاقة القائم حاليا بين الدول العربية وإسرائيل, والعمل على نقل هذا النمط تدريجيا من الطابع الصراعي أو الحيادي الذي يتسم به حاليا إلى الطابع التعاوني المنشود, وياحبذا لو أمكن الوصول به إلى نوع من التحالف النشط في مواجهة ما تمثله إيران والجماعات الإرهابية من تهديدات مشتركة. وبصرف النظر عن مدى ما تتسم به مثل هذه التحليلات من دقة أو صحة ما توصلت إليه من استنتاجات, إلا أنها تحليلات تعكس نهجا في التفكير الاستراتيجي ليس من المستبعد أن تكون الزيارة التي قام بها وزير الخارجية المصري مؤخرا إلى إسرائيل أحد مخرجاته. غير أنني لا أتفق مطلقا مع هذا النهج, والذي يذكرني في الواقع بالنهج الذي سار عليه السادات في مرحلة ما بعد حرب أكتوبر 73. فكما بنى السادات حساباته في تلك المرحلة على فرضية امتلاك الولايات المتحدة 99% من أوراق حل الصراع العربي الإسرائيلي, يبدو أن بعض صناع القرار في العالم العربي يبنون حساباتهم الحالية على فرضية امتلاك إسرائيل, والتي تحتل مرتبة القوة الإقليمية الأولى في المنطقة من وجهة نظرهم, 99% من أوراق حل مشكلات العالم العربي.!! لكن من الواضح أن العالم العربي لم يتعلم بعد من دروس التاريخ وما زال يتصرف كالفئران التي تلتقط الجبن دائما من نفس المصيدة!. لا يوجد حل أمريكي أو إسرائيلي للأزمات العربية, ولن يكون هناك حل لأي من هذه الأزمات إلا إذا جاء عربيا خالصا. فالأزمات التي يواجهها العالم العربي حاليا, على كثرتها وتشعبها, لها جذرين لا ثالث لهما: جذر يتعلق بفلسطين وآخر يتعلق بالدين, ولا حل لأي من هذه الأزمات إلا بالوصول إلى الجذور والأمراض وعدم الاكتفاء بالفروع والأعراض. فحل القضية الفلسطينية لا يكون بترك أمرها رهنا بإرادة إسرائيل, أو أي من الدول المتنافسة على قيادة الإقليم, وإنما يكون بإعادة ترتيب البيت الفلسطيني من الداخل وتأسيس حركة وطنية فلسطينية موحدة وجديدة, مدعومة عربيا, وقادرة على التفاعل النشط مع مؤسسات المجتمع المدني العالمي. أما حل المسألة الدينية فلا يكون بترك كل من هب ودب يفتي في شئون الإسلام, وإنما يكون بتشكيل هيئة مرجعية تتحدث باسمه. ولأن الإسلام دين واحد, حتى وإن تعددت مدارسه الفقهية, يتعين تاسيس هيئة مرجعية واحدة تشكل من علماء يمثلون كل المدارس الفقهية, وهو أمر يستحيل الشروع في تنفيذه عمليا بدون حوار مسبق وجاد بين الشيعة والسنة و بالتالي بين إيران والعالم العربي. وبدون تهيئة الأوضاع لظهور حركة وطنية فلسطينية جديدة مدعومة عربيا, وحوار عربي إيراني مدعوم إسلاميا, لا أمل في استقرار المنطقة على المدى المنظور. الزيارة التي قام بها وزير خارجية مصر إلى إسرائيل مؤخرا قد تكون بداية لحركة واسعة النطاق, لكنها للأسف حركة في الاتجاه الخاطئ. لذا من الأفضل أن تتوقف وأن يعاد تصحيح وجهتها.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف