الكتلة الحرجة.. في الأصل هي اصطلاح شائع في العلوم النووية، قد يحتاج إلى شرح، وأنا درست معناه في الجامعة "الكيمياء النووية" و"الفيزياء النووية" على يد علماء كبار في مصر.. ولعل ذلك ساعدني على فهم معناه الاجتماعي، بعدما انتقل ليكون أحد أهم مفردات علم الاجتماع السياسي. قـبل ثورة يناير بشهور قليلة.. كان المفكر السياسي الزميل عبد المنعم سعيد، أكثر الباحثين استخدامًا لهذا المصطلح للدلالة على "النقطة" التي عندها تنكسر قدرة المجتمع على تحمل نفقات فاتورة "الاصلاح الاقتصادي" أو فساد رجال الدولة.. حيث ينفد صبره، وينتظم في احتجاجات واسعة يصعب السيطرة عليها أمنيًّا، قد تؤدي بالتراكم إلى اندلاع ثورة جماهيرية، على غرار ما حدث في "قيرغيزستان" ثم في تونس.. حيث انتفض الشعب وهرب الرئيس خارج البلاد. سعيد.. في مقالات سابقة ـ قبل الإطاحة بمبارك ـ كان يتساءل: أين هي الكتلة الحرجة؟! وذلك في ردّه على المعارضة التي تراهن ـ كما رأى سعيد آنذاك ـ على أن مرور مصر بمرحلة "الفوضى" قد بات شرطًا لولوجها عصر التغيّرات السياسية الكبيرة.. والسؤال كان عادة يُطرح بشكل "استهزائي" ساخر، خاصة وأن د. سعيد لم يكن ليخوض في موضوع إلاّ وكان مسلحًا بالأرقام والإحصائيات والتي بتحليل مضمونها ـ بحسب قراءته وأدواته الخاصة ـ تسفر في النهاية عن نتيجة واحدة، هي أن "الكتلة الحرجة" التي تراهن عليها المعارضة، ترفل في نعيم "الاصلاحات الاقتصادية" التي تبناها الحزب الوطني منذ ثلاثة عقود مضت.. وكان عادة ما يسأل: إذا صدّقنا التقارير التي تقول إن 40% من الشعب المصري يعيشون تحت خط الفقر، فلِمَ لا نسأل عن الـ 60% الأخرى التي تشكل قوام الكتلة الحرجة التي تنتظر ثورتها المعارضة المصرية؟! عبد المنعم سعيد ـ وهو أحد أهم منظري الحزب الوطني ـ كان يعتمد على مسلمة واحدة، وهي أن الكتلة الحرجة "هوس" لا يوجد إلاّ في رأس المعارضة المتطرفة، وأن "الوطني" لا تعنيه مثل هذه "الهلاوس" على أساس أن أكثر من 60% من المصريين يتفيّؤون جنات الوطني الاقتصادية.. وهي النسبة "الخطرة" التي باتت بفعل الاصلاحات الرسمية كتلة "مأمونة" و"مسالمة" وربما "مغيبة" في "النعيم" الذي وفّرته لهم الحكومات التي تعاقبت في فترة حكم الرئيس الأسبق مبارك! يوم 16/4/2010 كتب د. عبد المنعم سعيد، مقالاً في الأهرام، نقل فيه بشكل لافت وصادم "الكتلة الحرجة" من موقع "هلاوس" المعارضة لتحل محل "القلب" من اهتمامات الحزب الوطني، ليس فقط قبل الاستحقاقات البرلمانية والرئاسية .. ولكن أيضًا قبل ذلك وعلى وجه السرعة.. بل إنه حذّر الحزب الوطني من أن الكتلة الحرجة "المسالمة" ربما تتخلى عن حياة "الدعة" التي تعيش فيها تحت ضغوط تطلعات أعلى.. وربما يتصيدها الآخرون ويحولونها إلى "قوة ثورة"! هذا الانقلاب في رؤية د. سعيد بشأن الكتلة الحرجة.. كان لأول مرة صادقًا فيه؛ لأنه كتبه بعد ثورة "الكتلة الحرجة" في "قيرغيزستان " ـ قبل انتقالها إلى تونس فيما بعد ـ والتي حركتها دعوة للإضراب وقف وراءها الائتلاف المعارض "الحركة الشعبية الموحدة" ردًا على الفساد والبطالة، والفقر والمحسوبية، والاستبداد وتوريث "باكييف" السلطة لعائلته. كان واضحًا أن ثورة ""قيرغيزستان " ـ في ذلك الوقت ـ ألقت بظلالها على مقال الدكتور سعيد.. ويبدو أن الأخير استشعر الخطر، واكتشف أخيرًا أن المسألة لا تحتمل مثل هذا "الاستخفاف" الذي تعامل به مع المصريين طوال سنوات مضت. الوضع كان ـ فعلاً ـ لا يحتمل "هزار" ولا يحتمل ليّ عنق الأرقام والاحصائيات وخداع "الاصدقاء" في السلطة بأن الجو بديع والدنيا ربيع.. ولا ضير من تقفيل الصناديق.. فربما "الجرّة" لا تسلم هذه المرّة. وبالفعل "الجرّة" ـ وبعد ثورة 25 يناير في مصر ـ قد كُسرت فعلاً، وعودتها كما كانت لن يكون إلا في عقول "الأقلية الأمنية" التي تدير البلد الآن، ولا تعرف عن 25يناير إلا أنه كان "فوضى" نتيجة "تقصير الأمني".. ومواجهته لا تزيد عن مواجهة المجتمع بقسوة وتخويفه من خلال إطلاق يد الأمن "يفعل ما يشاء" وهو في مأمن من العقوبة. نفس مأساة مبارك.. عندما اعتقد بأن 60% من الشعب يرفل في نعيم إصلاحاته الاقتصادية.. فأدته الثورة من حيث لا يحتسب.. وكذلك يعتقد نظام الحكم الحالي أن "شبه الدولة" لا تحتاج إلى مؤسسات.. وإنما إلى أقسام شرطة، تصدر صراخات المعتقلين والمغيبين داخل الزنازين المظلمة إلى المجتمع "المتمرد" فيمشي "جنب الحيط".. غير مدرك أن الزمن غير الزمن.. وأن المصريين هدوا الحوائط كلها منذ خمس سنوات.. فهلا تعلم من درس مبارك؟!