د . جمال المنشاوى
انقلاب تركيا.. يكشف الإعلام المصري!
(الجيش التركي قام بثورة شعبية!), (باي باي أردوجان), (أردوجان طلب اللجوء لأوزبكستان), (الشعب التركي يخرج للتنديد بأردوجان), (أردوجان أصبح الرئيس السابق وستجري محاكمته), كانت هذه نماذج من انطباعات وتعليقات المذيعين المصريين علي قنوات التليفزيون المصري والقنوات الفضائية الخاصة في بداية أخبار الانقلاب التركي, وما إن ظهر فشله وسيطرة أردوجان علي السلطة حتى تبدلت مواقفهم 180 درجه, وتغير أسلوبهم إلي النقيض (انقلاب فوتو شوب), (أردوجان مُدبر الانقلاب), (الانقلاب فرصة أردوجان للتخلص من أعدائه), (أردوجان يتلاعب بالشعب التركي), هذا التبدل والتحول في نفس البرامج ودون حتى الخروج لفاصل ولو بسيط, يكشف المستوي الهزيل والغير مهني لمن يتصدرون واجهة الإعلام والقنوات الفضائية, والذين يساهمون بدرجة كبيرة في تجهيل البسطاء, وإغاظة الفاهمين, والذين لا يجدون سبباً واحداَ لإدارة وتوجيه الريموت إلي قنواتهم إلا لاكتشاف الوجه الآخر لـ"الهطل" والتخلف الإعلامي, وهذا بطبيعة الحال يقودنا إلي العودة إلي الوراء قليلاً لنقارن حقبة تاريخية انتهت بواقع من المفروض أنه قد تطور واستفاد من القديم ففي سنة 67 كانت إذاعة صوت العرب هي الإذاعة العربية الأولي وكان لها تأثير كبير في محيطها, وكان عبد الناصر يستغلها في تمرير أفكاره وسط الجماهير العربية, وعندما قامت الحرب مع إسرائيل, أخذ المذيع الأول في تلك الإذاعة أحمد سعيد بصوته الجهوري وأسلوبه الحماسي يعدد الإنجازات والانتصارات التي قامت بها الجيوش العربية, من إسقاط للطائرات إلي اقتحام للمواقع ,واحتلال للمدن الإسرائيلية, حتى أيقنت الشعوب العربية أن مقولة عبد الناصر الخالدة! (حنرمي إسرائيل في البحر) مُتحققة علي أرض الواقع , وما هي إلا ساعات حتى يتحقق الشطر الثاني من الشعار وهو(عبد الناصر يا حبيب..بكره حنوصل تل أبيب),عاش الناس هذا الشعور الزاهي بالانتصار, ثم فوجئوا في يوم 9 يونيو بعبد الناصر يعلن تنحيه عن حكم البلاد بسبب النكسة (نكسة! يا إلهي!) التي مُنيت بها الجيوش العربية واحتلال إسرائيل لسيناء والجولان والضفة الغربية,في هزيمة مُنكرة وغير مسبوقة لثلاث جيوش عربية , مصر والأردن, وتساءل الناس أين صيحات أحمد سعيد ؟! وأين ذهب هذا الخطاب ؟! ومن أين كان يستقي معلوماته؟! ولماذا فعل هذا ؟! ومن وراء هذا الأسلوب الكاذب المُخادع في مخاطبة الشعوب؟!, ولم يكن كثير من الناس يدرك إن هذا أسلوب قديم اتبعه جوبلز وزير إعلام هتلر والنازي ليخدع الجماهير ويخدرها أساسه (إكذب ثم إكذب ثم إكذب حتي تصدق كذبتك ويصدقك الآخرون), وقد كان هذا الأسلوب مقبولاً ومؤثرا في ذاك الوقت (الأربعينات والستينات من القرن الماضي), لصعوبة الوصول للمعلومة حيث كانت الاتصالات صعبه جداً والاعتماد الأساسي كان علي الإذاعة, لكن في هذا العصر ومع هذه الثورة الرهيبة في الإتصالات, ومع وجود العالم كله بين يدي الشخص في جهازه النقال عبر النت وغيره, وسهولة الوصول إلي المعلومة بطرق مختلفة وبالصوت والصورة في نفس وقت حدوثها, لم يعد من المقبول ولا المعقول العودة إلي الأسلوب القديم (أسلوب جوبلز وأحمد سعيد), وهو ما لم يدركه الكثير من القائمين علي الإعلام الرسمي المصري, والقنوات الفضائية المصرية الموجهة, في تناولها لما حدث في تركيا, فخلطوا الحقائق بالأكاذيب, ومزجوا الواقع بالأمنيات, ولم يدركوا قيمة المصداقية ولا نقول الحيادية التامة في نقل الخبر(فهي واقعيا مستحيلة),فجعلوا المشاهد المصري يقلب القنوات والمواقع المختلفة ليعرف الحقيقة,ولا يعود لإعلام بلاده إلا للمقارنة بين ما يقوله وينقله الآخرون حتى ولو كانوا أعداء لتركيا وأردوجان من أساطين الإعلام الغربي, وبين ما يقوله إعلامه وليتندر بذلك علي امتهان المهنية والمصداقية,والتي لا يدرك هؤلاء أنها تؤثر علي وجودهم, باعتبارات الجذب للمشاهدين, فترتفع نسبة المشاهدة, فتزيد الإعلانات فتتضاعف رواتبهم, لكن الغرض مرض, وأنا هنا أتكلم عن الجانب المهني وليس السياسي , فالإعلام الآن دوره نقل الصورة الحقيقية الواقعية الصادقة في ذات اللحظة, والمذيع يكون محايداً في نقل الخبر وإلا فقد مصداقيته,ثم يترك التحليل والاستنتاجات بعد ذلك للمحللين أو الضيوف وحتى في إدارته للحوار يكون محايداً بل في أحيان كثيرة يتبنى الرأي الآخر أو كما يسميه الإعلاميون مجازاً (محامي الشيطان), الإعلام المصري سقط بامتياز في هذا الامتحان البسيط والذي كان من خلاله يستطيع العودة للريادة مرة أخري بدلاً من العودة للوراء ..لإعلام جوبلز..وطريقة أحمد سعيد!