مؤمن الهباء
شهادة .. اقرأ ما يملي عليك
كان الدكتور محمود حمدي زقزوق من أقرب وزراء الأوقاف إلي قلبي.. كنت أري فيه العالم المستنير الواعي بقضايا دينه ووطنه وأمته والوزير المتواضع الأمين.. لكنني اختلفت معه. ضمن من اختلفوا معه في قضية توحيد الأذان بالمساجد.. كان يري أنها تجربة جديدة تجنب الناس سوء أصوات المؤذنين وانفرادهم بالميكروفونات في المساجد.. وقد نجحت في الأردن.. وكنت أري وكتبت ذلك مراراً في هذه الزاوية ان التجربة محكوم عليها بالفشل وأن ملايين الجنيهات التي تنفق عليها تمثل اهداراً للمال العام.. وأنها تنطوي علي تعطيل لشعيرة الأذان.. ناهيك عن أن مصر أكبر من ان تستورد تجربة من الأردن.
واليوم.. كلما دخلت مسجداً ورأيت فيه جهاز الاستقبال المعطل لتجربة توحيد الأذان استغفر الله للدكتور زقزوق الذي لم يستمع للرأي الآخر.. وأصر علي انفاق ملايين الجنيهات من ميزانية الدولة علي مشروع فاشل.. لم يتحدث عنه أحد بعده.
وفي عام 2010- قبيل ثورة 25 يناير- ظهرت دعوة أخري لتوحيد خطبة الجمعة.. وقامت وزارة الأوقاف بتعميم عناوين الخطبة أسبوعياً علي خطباء المساجد لكي يلتزموا بالحديث في قضايا معينة ولا يخوضوا في غيرها.. وكان المشروع يعبر عن هواجس الدولة وخوفها من الرأي الآخر.. ورغبتها في السيطرة علي المنابر كي تتحدث كلها بصوت واحد.
وقامت الثورة وانتهت حكاية توحيد الخطبة.. لكن وزير الأوقاف أراد ان يحيي المشروع بشكل أشد وأنكي.. فاخترع تعميم خطبة مكتوبة لكل الخطباء.. يقرأونها فوق المنابر إعمالاً لنظرية "اقرأ ما يملي عليك".. والغريب ان يتم تسويق هذه الفكرة تحت عنوان "تجديد الخطاب الديني".
كثيرون اعترضوا علي الفكرة من أساسها.. بعضهم وصفها أنها تجديد للاتحاد الاشتراكي الذي انشأه عبد الناصر.. علي اعتبار انها تعود بنا الي الخلف.. وتسير عكس حركة التاريخ.. تسير عكس حركة الزمن.. فعبد الناصرالخمسينيات والستينيات والاتحاد الاشتراكي والتأميم لم يتفتق ذهنه عن مثل هذا الاجراء العجيب الذي لا يطبق إلا علي علماء الدين الإسلامي فقط.. بينما غيرهم يخطب هنا وهناك دون تثريب.. أليس هذا أمراً مثيراً؟!
معظم علماء الدين والخطباء اعترضوا علي مشروع الخطبة المكتوبة.. مؤكدين ان الفكرة تسئ الي صورة مصر.. وتكرس لدولة الصوت الواحد.. وتخلق مسارات تحتية وسرية تساند الارهاب والإرهابيين وتدعم الفكر المتطرف والجماعات الشاذة.. ولا يمكن تجديد الخطاب الديني بدون حرية.. حرية التعبير والإبداع.. حريةالفكر والتجريب.. الخطيب الذي يقرأ من ورقة مرسلة إليه من الوزارة لا يمكن أبداً ان يكون عنصراً دافعاً للتطور.. وإنما في الغالب سيكون أداة للقهر والكبت والتبلد.. فهل نريد شعباً بهذه المواصفات؟!
ثم.. ما حاجاتنا الي كليات ومعاهد أزهرية.. وطلاب يدرسون الشريعة وأصول الدين والفقه والعبادات؟!.. ما حاجتنا إلي علماء دارسين.. يكفينا شخصا حاملا لشهادة محو الأمية يصعد إلي المنبر ليقرأ من الورقة.. ويتحدث بالإذن.. ولا يخرج عن الإطار المرسوم له ولغيره.. وهو بالتأكيد سيكون بلا دور وبلا رسالة..
إن ادعاء تجديد الفكر الديني أو تجديد الخطاب الديني عن طريق توحيد الفكر كما توحيد الزي لا يمكن أن يؤدي إلا إلي تجميد الخطاب الديني.. ودفعه إلي الخلف.. إلي أزمنة الركود والتخلف والضعف والهوان.. إلي زمن "اللهم انصر سلطاننا قنصوة الغوري".. فهل هذا ما يريده وزير الأوقاف الهمام؟!