الوطن
أمينة خيرى
لقد نفد رصيدكم من المرطبات والأحضان!
التشوه والتشوش والتوحش الذى ضرب مصر فى مقتل اجتماعى ونفسى وعصبى، لن تصلح معه ضمادات الجروح السطحية، أو مسكنات الأوجاع العشوائية، أو مرطبات الأحضان والقبلات العرفية، أو حتى أفلام الفنان عادل إمام التى سبقت عصرها وزمانها فى تعرية المتأسلمين بفئاتهم ممن استقدموا العنصرية والعنجهية الدينية وضربوا بهما فئات المجتمع المصرى المختلفة على مدى نحو خمسة عقود. هذا الضرب الذى جاء عبر زوايا يخطب فيها النجار والسباك وبائع الخضار الملتحى الذى اكتسب لقب «شيخ» بفعل لحية كثيفة وتلمذة عتيدة على أيدى أمير من أمراء التطرف، أو شيخ من شيوخ «اقتلوهم واضربوهم وطلعوا عينهم وعين إللى جابوهم»، ومن خلال مدارس ومعاهد فتحت أبوابها فى غفلة من الدولة (أو ربما بعلم منها) وتحت سمع وبصر أنظمة مختلفة، حيث تمكن معلمون تربوا على أيادى شيوخ الفتنة والتطرف و«الدين عسر» من الأجيال الصغيرة، فأرضعوهم كراهية الآخر، وفطموهم على رفض الآخر، ونموا فيهم نرجسية الأفضلية لهم لمجرد أنهم ينتمون لدين دون آخر بغض النظر عن تصرفاتهم وأخلاقهم وسلوكياتهم، ومستوصفات ومستشفيات وعيادات أطباء فتحت أبوابها تعالج الفقراء والبسطاء بيد وتدق أسافين التطرف والتشدد والجهالة بيد، وغيرها من صنوف الضرب تؤتى ثمارها هذه الآونة. هذه الثمار لا تتبدى فقط فى أحداث المنيا -وهى بالطبع ليست الوحيدة ولن تكون الأخيرة- لكنها تظهر وتتجلى وتتألق فى كل تفصيلة. فمن عبارة كاذبة اسمها «الشعب متدين بالفطرة» تشير إلى رضا أو قناعة أو تسليم، إلى جهل تام لدى البعض بما يعنيه الدين أصلاً، أى دين، واقتناع عميق بأن هذا أرقى من ذاك لأنه ينتمى لدين بعينه، ومنه إلى إيمان عميق بأن السيوف الملصوقة على زجاج السيارات والقرآن الصادر من الدراجات النارية ومكبرات المساجد المنصوبة ليلاً ونهاراً تبث الصلوات والخطب والدروس الدينية وما تحويها من عبارات تحمل كراهية وازدراء وفوقية وغيرها كثير من مظاهر التدين المظهرى والصوتى. ومنذ تحولت مصر إلى لوحة موزاييك حيث العباءة الخليجية السوداء العائدة مع المروحة والكاسيت بروحين والبطاطين بعد هجرة اقتصادية هنا أو هناك، وغسل أدمغة خضعت له أجيال المهاجرين المتواترة حيث تم التخلى عن مصر متعددة الثقافات منفتحة الآفاق متفتحة الأفكار متسامحة واعتناق فكرة «اللهم اشف مرضانا ومرضى المسلمين». وعلى الرغم من بعض المؤشرات الإيجابية بعد ثورة يونيو 2013 العظيمة (وتتجلى عظمتها بتواتر الأحداث فى المنطقة) حيث فضح النعرة الفوقية لدى الإخوان، والنبرة الانتهازية لدى السلفيين، ورقص ما بينهما من تيارات متأسلمة على سلالم النفعية والمتاجرة بالجنة والنار، وكذلك دعوة الرئيس لتحديث الخطاب الدينى وتجديده قبل عام ونصف، إلا أن الخطوات متعثرة، والإجراءات متلعثمة، والركب متخبطة فى بعضها البعض. هناك شعور بأن كل محاولة للتطهير تعقبها خطوات عدة إلى الوراء، وكأن هناك فى كل ركن من يعتبر مطالبات التنظيف هجوماً على الدين وكفراً بالعقيدة ورفضاً للإسلام. نسى كثيرون أو تناسوا أو ربما لم يعاصروا أصلاً وقت كانت مصر دولة متفتحة متنورة مؤمنة بالتعددية بالفعل لا بالقول، وقت كانت مصر بهية الشكل والمحتوى، نظيفة الشوارع والقلب. وقتها لم تكن السيوف تغطى زجاج السيارات الخلفى، ولم تكن زوايا الصلاة فى محطات مترو الأنفاق والموظفون والعمال يتوضأون أمام الركاب ويمشون ببنطلوناتهم مشمرة ويقيمون الصلاة جماعة بينما المواطنون يتناحرون على شباك التذاكر ويتدافعون على السلالم الكهربائية وأمام الماكينات المعطلة، ويتباهون بمرورهم دون وضع حقائبهم على سير التفتيش الإلكترونى بينما موظفو الأمن عنهم ساهون متناسون. وقتها لم تكن المدارس الإسلامية الأمريكية الدولية قد غزت سكان قمة الهرم الطبقى، حيث خريجين جدد بلا طعم أو لون. وقتها لم تكن هناك طفلات فى السابعة والثامنة يجبرن على تغطية شعرهن قبل دخول المدرسة وإلا ظن الناس أنها مسيحية. وقتها لم تكن النظرة الوحيدة الموجهة إلى الإناث نظرة جنسية بحتة. وقتها كان المصريون أقرب إلى الله لكن دون وسيط. واليوم وبعد ما آلت إليه الأوضاع على ما نتجرعه من عنصرية مقيتة يظنها البعض إيماناً والتزاماً هل نستمر فى غيبوبتنا الدينية والاجتماعية؟ هل نظل على عهدنا فى إصلاح نظام التعليم بتغيير «عادل وسعاد» إلى «تامر وشريهان»؟ هل نستمر فى الدفاع عن الممرضة المنتقبة لأن هذا حقها دون حق المريض؟ وهل نستمر فى السماح للمعلمة المنتقبة بأن تطل على التلاميذ فى الفصل لتعلمهم وتربيهم على التسامح والتنوير دون أن يروا ملامح وجهها؟ وهل نقرر أن تكون خطبة الجمعة موحدة ومكتوبة ومقروءة ثم نتراجع ونشير إلى أنها فى مرحلة التجريب لا سيما أن الجماعات السلفية تعترض وتهدد ولا تمتثل؟ وهل المعلمون الذين عادوا من هجرة اقتصادية أو تتلمذوا على يد علامة رافض للآخر هم الذين سيقومون بمهام التنوير وضرورات التجديد؟ وهل سيكون هناك أمين شرطة على قناعة بأن من يكتب على الجدار «صلى على النبى (صلى الله عليه وسلم)» أو «اذكر الله» هو مخرب ومشوه للممتلكات العامة وليس ناشراً للإسلام؟ وهل الضابط الذى يتلقى بلاغاً من مواطن مسيحى حرقوا بيته لاعتقادهم أنه كنيسة (وكأن الكنيسة تهمة) سيتعامل مع الموضوع باعتباره جريمة أم مسألة اجتماعية تحتاج جلسة عرفية؟ أين وما نقطة البداية؟ ومن يقوم بها؟ ومتى؟ تقول الرسالة المسجلة: عفواً! لقد نفد رصيدكم من المرطبات والمسكنات.

نسى كثيرون أو تناسوا أو ربما لم يعاصروا أصلاً وقت كانت مصر دولة متفتحة متنورة مؤمنة بالتعددية بالفعل لا بالقول وقت كانت مصر بهية الشكل والمحتوى نظيفة الشوارع والقلب
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف