نصف الدنيا
نوال مصطفى
ساق البامبو
نبتة البامبو هى نوع من النبات يمكنه أن ينمو فى أى مكان ينتقل إليه، دون حاجة إلى جذور. يقتطع جزء من ساقها، و يتم غرسه فى أى أرض، لا تلبث الساق طويلا حتى تنبت لها جذور جديدة، تنمو من جديد فى تلك الأرض الجديدة.

وهذا ما عاشه عيسى راشد الطاروف، أو «هوزيه» صاحب الشخصية المحورية فى تلك الرواية البديعة «ساق البامبو» للأديب الكويتى سعود السنعوسى، الذى حصد العديد من الجوائز عنها، كانت أولها وأهمها هى جائزة البوكر العربية عام 2013 . تلتها جوائز عديدة من مختلف بلاد العالم، كذلك ترجمت الرواية إلى عدد كبير من لغات العالم، واحتفى بها القراء والنقاد حفاوة هائلة. الرواية - فعلا- تستحق.

«ساق البامبو» رواية تفوح بالصدق، أسلوبها بسيط وعميق، أشبه بغزال يمرح فوق الأوراق برشاقة، تلقائية وثقة . تدفق الحكى، وشهوة البوح بكل تفاصيل معاناة عيسى راشد الطاروف الذى هو هوزيه أو خوزيه فى سياق آخر تسبق البحث عن مفردات مبهرة أو صورة أدبية مدهشة، فالمبهر هنا هو القدرة على نقل المشاعر الداخلية لإنسان يبحث عن هوية. والمدهش هو كيف روى تفاصيل الرحلة الصعبة فى ثلاثمائة وست وتسعين صفحة من القطع المتوسط دون أن تشعر كقارئ بلحظة ملل واحدة، بل يتملكك الفضول لتصل إلى نهاية الحكاية ومعرفة مصير هذا البائس الضائع فى دروب هويته .

عيسى راشد الطاروف الذى شاء قدره أن يكون مقسوما إلى نصفين لا يلتقى أحدهما مع الآخر فى أى شيء إلا ربما فى محيط جسد يحمل اسمين هو جسده، أما روحه فهى الهائمة دوما بحثا عن الحقيقة، حقيقة ذاته التى لا يدرك كنهها يقينا .

عيسى أو هوزيه أو خوزيه هو نتاج علاقة سرية بين الابن الأكبر لعائلة لها مكانة وصيت كبير فى الكويت وهى عائلة الطاروف، وجوزفين الخادمة الفليبينية التى جاءت من بلدة فقيرة فى الفلبين لتعمل وترسل إلى أسرتها بالمال .

أحب راشد المثقف، ابن العائلة الغنية تلك الخادمة الفقيرة وحدث أن حملت وعرفت أم راشد بالأمر فاستشاطت غضبا وأمرت ابنها بطرد جوزفين ورضيعها من الكويت، لتعود أدراجها إلى بلدتها الصغيرة فى الفلبين.

أذعن ابن الأكابر لقوانين العائلة، التى يتضاءل أمامها أى شيء آخر حتى لو كان الابن والحبيبة. كبر عيسى الذى يحمل اسما آخر فلبينيا هو هوزيه أو خوزيه فى الفلبين يحمل ملامح أمه، صوت أبيه. وذكريات كثيرة روتها له أمه عن بلده الثانى الكويت، بلد أبيه وعائلته الكبيرة الغنية هناك . كانت جوزفين تريد له أن يعود يوما ما إلى بلده ويحظى بحقه الطبيعى فى ثروة أبيه ومكانته تلك التى حرم منها لسنوات طويلة، كانت تحكى له عن كل شيء حتى تمهد له الطريق لكى يذهب إلى هناك ذات يوم ويستقر هناك .

يخوض عيسى الرحلة داخل نفسه إلى جانب الرحلة الجوية من الفلبين إلى الكويت. وخلال دروبها، يكتشف أو يحاول اكتشاف ذاته أنهم فى الكويت يتعاملون معه باعتباره فلبينيا، يحمل جواز سفر كويتيا. أسرته الكبيرة التى اضطرت لاستقباله مرغمة، لم تسطع أن تعلن أنه واحد منها، و ضمته إلى فريق الخدم فى البيت، يعيش معهم ويأكل على مائدتهم، يواجه عيسى هذا الظلم بالحزن حينا وبالاعتراض الهادئ حينا آخر، جدته «غنيمة» عماته «هند» و نورية» أخته غير الشقيقة «خولة» هؤلاء الذين خاض معهم رحلته فى الكويت إلى جانب غسان صديق أبيه راشد الذى مات فى الحرب .

من أجمل الأجزاء فى الرواية تلك التى يطرح خلالها عيسى أسئلة لنفسه : من أنا ؟ هل أنا أنتمى إلى الكويت أم إلى الفلبين ؟ هل أنا مسلم أم مسيحى أم بوذى ؟ لقد دخلت المسجد والكنيسة والمعبد وفى كل منهم كان هناك ما يربطنى بالمكان .

كذلك المشهد الأخير فى الرواية البديعة الذى يجلس فيه عيسى لمشاهدة مبارة كرة القدم بين فريق الفلبين وفريق الكويت ضمن تصفيات كأس العالم 2014 بالبرازيل . ومشاعره المختلطة عندما يحرز فريق الكويت هدفا يقوم مهللا، سعيدا، ثم يدرك بعدها أنه سدد هدفا فى مرماه، وعندما يحدث العكس تنتابه نفس المشاعر!

«بعضى يمزق بعضى» كما قال الشاعر كامل الشناوى ..هو ما عاشه عيسى راشد الطاروف الباحث عن ذاته فى ساق البامبو. رواية الغربة بامتياز!
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف